الحب هو أرقي المشاعر الإنسانية طرا, يعرفه المؤمنون نحو ربهم فيكون إيمانا حارا.. يدركه الناس تجاه أوطانهم فيصير انتماء قاهرا.. يحسه العشاق نحو معشوقيهم فيكون هياما وارفا.. يستشعره الأفراد تجاه مؤسسات بذاتها, فيستحيل ولاء جارفا.. ولكن قد يصير الحب سوطا يجلد به الناس بعضهم بعضا, عندما تفسد غاياته, وتنحرف دوافعه. هنا لا يبقي الإيمان فعل محبة وبر بالناس, بل فعل كراهية تجاه كل المخالفين في العقيدة والمذهب والطائفة, وصولا إلي التطرف والعنف والقتل باسم الله. ولا يبقي العشق نتاج هوي الروح بل مطلب جسد ينشد الغريزة ويسعي للإشباع, ولو أدي ذلك إلي قهر المعشوق, فلا نعجب إذا ما وجدنا محبا, بدعوي الحب, يغتصب محبوبته, لفرض هيمنته المريضة عليها. كما لا يبقي الانتماء إرادة فداء لأجل أرض ولدنا بها, وبشر نحبهم, بل يستحيل عنصرية مقيتة تكره الآخرين لمجرد أنهم آخرون, فهنا تكمن الأمراض التي تدفع بالشعوب إلي بحور العداء, ومجاري التهلكة. وأخيرا لا يبقي الولاء تجسيدا لانتماء حقيقي إلي مؤسسة أو ناد طالما اقتات علي التعصب, حتي صارت كراهية الآخرين ورفض انجازاتهم أكثر عمقا من محبة كياننا ذاته, وحرصنا علي تفوقه وانجازه. ولكن متي ينحرف الحب عن غاياته ليصير سيفا علي رقاب الناس, يفسد حرارة الإيمان, ورومانسية العشق وقيمة الوطن ومغزي الولاء؟.. عندما تداخله شوائب المصلحة بلا أدني شك, وتفسده روح الوصاية بلا أدني تردد, وتسيطر عليه فكرة الكهانة بلا أي مواربة. فغالبا ما تولد الأفكار نبيلة وملهمة, تسقط علي عالم الناس كما تسقط الشمس علي الأرض, لتنير وتطهر, ولكن سرعان ما يدرك البعض نفعها, فيسعون إلي احتكارها, وتعيين أنفسهم أوصياء عليها, كهنة وسدنة لها, وسطاء بين الناس وبينها. كانت الأديان هي الأكثر إلهاما, ولذا عرفت الكهانة منذ القدم, أما الأولتراس, جمهور الكرة المتعصب, فليسوا إلا كهنة عالمنا الجديد.. ولدت الكرة لعبة جميلة حيث الترويح الجميل والمنافسة الشريفة والحماس الشديد لفرق أندية وأوطان علي نحو يجدد الولاء ويذكي الانتماء. ولكنها إذا ما شبت صارت سوقا, تراق داخله الأموال, وتثور علي جوانبه الصراعات, وتتناثر حوله الكراهية, شظايا تصيب الآخرين. كان الفيلسوف نيتشة يعتقد بأن المعبد قد تحول إلي سوق وقد أسعده ذلك, أما الأولتراس فقد رأوا العكس, وكان لهم ما أرادوا. فإذا كانت سوق الكرة قد تحولت إلي معبد, والكرة نفسها إلي معبود وثني من دون عقائد لاهوتية, له معبد أخضر تقام في أروقته المذابح, وتراق عليه دماء الذبائح, فلماذا لا يستفيدون؟. لم يكن فريق الكرة بالنادي الأهلي منذ نشأته قبل مائة وخمسة من الأعوام, سوي بطل, نشأ في قلب حركة وطنية, فأحبه المصريون وشجعوه.. امتلك الأهلي شخصية حكيمة كشخصية مصر, وقاعدة كبيرة بامتداد أرضها وانتشار أهلها, صنع تاريخا رياضيا يشبه تاريخها الحضاري, لعب دورا ملهما في المحيط العربي يوازي دورها السياسي والثقافي. فكما نجد أحزابا (ناصرية) في بلدان عربية عديدة بعضها أقوي في بلاده من قوة الناصريين في مصر, حملت أندية عديدة اسم الأهلي في سبعة بلدان عربية تمتد من السعودية في الشرق إلي ليبيا في الغرب. كان تأييد المصريين للأهلي ذخيرته في كسب البطولات, ومراكمة الانتصارات, حتي تصدر القارة, سيدا, للقرن العشرين, وبطلا للعقد الأول من الحادي والعشرين, بفضل روح بطولية تولدت لديه وصنعت شخصيته المتميزة, جيلا بعد جيل. أما الجميل واللافت معا, فهو تأسيس تلك الشخصية علي قاعدة علاقة ديمقراطية وحرة مع الجماهير, حتي إن هتافهم( ياللا يا أهلوية) طالما تبدي مثل قرار تم اتخاذه من خارج الملعب لأجل تثوير الملعب, فإذا باللاعبين وكأنهم حقا شياطين حمر, يتسلطون علي المنافسين ليجروهم إلي أذيال الهزيمة, فيما يستبقون لأنفسهم نصرا مؤزرا, وفي الأقل تمثيلا مشرفا, وكفاحا نادرا... لم يكن اللاعبون يخشون جماهيرهم, بل يحبونهم, ويحترمون جهدهم في مؤازرتهم, فلم يكونوا ليتوانوا لحظة عن إسعادهم, قدر الجهد والطاقة.. ولم تسع تلك الجماهير قط لإرهاب اللاعبين, ثقة فيهم واحتراما لكفاحهم من أجل أنفسهم, وناديهم, وجماهيرهم.. إنها علاقة رائقة, تخلو من كل منفعة, ولا تحوي سوي شراكة الروح, فرحا وبهجة, أو حزنا وألما. اليوم تصفعنا ميليشيات الأولتراس, بكل ما هو مريض ومغرور.. نفر معدود من الجماهير يدعون أنهم (الجماهير), يحتكرون الفريق ويتسلطون علي النادي.. يرهبون الإدارة ويخيفون اللاعبين.. يريدون التحكم بمصائر المسابقات, وأقدار الناس بدافع من حب مذموم, وعشق مجنون, يخفي رغبة سادية في التملك والهيمنة. نعم كانت مذبحة بور سعيد هائلة بل مفزعة, وقد تجرعنا آلامها جميعا, مصريين لا أهلوية, وإن كانت آلامها عليكم أكثر حدة, وأشد وجعا, ولكن.. ألم تكونوا أنتم بتعصبكم, ومعارككم الوهمية لا فقط مع الشرطة بل وجماهير الأندية الأخري, أحد أسبابها, فلماذا لا تلومون أنفسكم, كما تلومون غيركم, وتتخلوا عن تعصبكم, أم ترون أن المزيد من التعصب وإراقة الدماء هو ما سيعيد حق الشهداء؟. لقد حاول النادي قدر الطاقة أن يحفظ حقوقهم, وأن يأخذ بثأرهم من خلال القانون, وعبر رعاية ذويهم, وهو أمر يسهم فيه عودة النشاط ويعطله تجميد المسابقات, فلماذا الافتئات علي الجميع, ولماذا الرغبة المحمومة في احتكار دمائهم وتوظيفها ضد النادي الذي أحبوه وما كانوا ليرضوا, لو أنهم بيننا, أن تعبثوا به وتعطلوا مسيرته. ربما أخطأت إدارة النادي, ولكن في تدليلكم واسترضائكم.. ربما كان مبررها هو تلك الصورة الجميلة التي كنتم ترسمونها للملعب, وأعترف أنها كانت تسعدني أيضا, وتبهرني أحيانا, ولكن الصورة الجميلة, كالفكرة الجميلة, تتشوه بالوصاية, وتفسد بالاحتكار, وتتعفن بالتعصب, وهذا ما يحدث الآن. وربما تكون الإدارة قد أهملت أو أن اللاعبين قد قصروا في شيء, ولكن هنا يحق لكم فقط أن تتوقفوا عن تشجيع ناديكم, أما محاولة الهيمنة عليه, وترهيب لاعبيه, واحتكار الحديث باسم شهدائه, وباسم جماهيره في أربعة أنحاء الأرض, فهو خروج ليس فقط علي مشاعر الحب والانتماء, بل علي كل القوانين والأعراف المرعية. أيها الإخوة والأشقاء.. عودوا كما كنتم محبين, أتركوا حقوق الشهداء للقانونيين, توقفوا عن بث الفوضي, ولا تكونوا مثل كهنة, هدفهم فرض الوصاية واحتكار الحقيقة, فالأهلي حقيقة كبري, كان قبل أن تولدوا وسيظل بعد أن ترحلوا, لأنه من جسد مصر وروح المصريين, ولا عليكم إلا أن تخلو السبيل إليه, أن تتركوه في ذمة مشجعيه الكثيرين, ومريديه الحقيقيين, حيث الولاء فعل محبة, والانتماء آصرة قربي من دون وصاية نرفضها في الكرة, كما نرفض الكهانة باسم الدين. المزيد من مقالات صلاح سالم