النتائج النهائية الدقيقة للانتخابات الإسرائيلية غير معروفة بعد، لكن ما نعرفه يكفى لتأكيد اكتساح أحزاب اليمين للانتخابات، وسواء جاء حزب ليكود أو الائتلاف المنافس فى المقدمة، فالمرجح هو أن يبقى بنيامين نيتانياهو فى منصب رئيس الوزراء الذى يشغله منذ عشرة أعوام، مؤكدا استمرار سيطرة اليمين الإسرائيلى على السلطة. ائتلاف أزرق أبيض المنافس الرئيسى لحزب ليكود هو تجمع يمينى إصلاحي، ينتقد أساليب نيتانياهو فى ممارسة السلطة, أما اليسار الإسرائيلى فقد عانى المزيد من الخسائر، ليتعمق منحنى التراجع طويل الأمد الذى دخله اليسار فى إسرائيل منذ خسر حزب العمل انتخابات عام 2001. لم تحظ الانتخابات الإسرائيلية سوى بتغطية إعلامية محدودة فى وسائل الإعلام العربية. ليس فى هذا مفاجأة، فالنتيجة المعروفة سلفا، واستمرار سيطرة اليمين على الحكومة فى إسرائيل لا يشجع الرأى العام العربى على الاهتمام بانتخابات لا تمثل منعطفا. يختلف الاهتمام العربى المحدود بمتابعة الانتخابات الإسرائيلية كثيرا عما كان يحدث فى الماضى غير البعيد، عندما كانت وسائل الإعلام العربية تتابع باهتمام تفاصيل المنافسة الانتخابية فى إسرائيل. كان ذلك يحدث فى زمن كان فيه فى إسرائيل كتلة يسارية قوية قادرة على الوصول إلى رئاسة الوزراء, وكان للأحزاب الإسرائيلية المتنافسة مواقف متعارضة إزاء القضية الفلسطينية، وكان أثر الانتخابات الإسرائيلية على الفلسطينيين والعرب يختلف إذا فاز اليسار عما إذا فاز اليمين. لم يعد شيء من هذا موجود الآن. فبينما شغلت قضية نزاهة الحكم المساحة الأكبر من الجدل بين الحزبين الكبيرين فى الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، فإن القضية الفلسطينية لم تكن من بين القضايا التى اختلف عليها الحزبان الكبيران فى هذه الانتخابات. ففيما دعا نيتانياهو لضم أجزاء من الضفة الغربية لإسرائيل، فضل منافسوه الإبقاء على الوضع القائم كما هو. أما حل الدولتين فلم يعد مطروحا على مائدة السياسة الإسرائيلية. انقضى وقت طويل على الزمن الذى كان فيه الإسرائيليون ينقسمون حول القضية الفلسطينية، حتى نسى الكثيرون منا أن شيئا من هذا كان يحدث فى وقت ما، والأرجح أن الجيل الأحدث بيننا لا يعرف شيئا عن هذا الأمر بعد أن أحكم اليمين قبضته على الحكومة الإسرائيلية لعقدين متتاليين، وأصبح ما كان يحدث قبل ذلك من باب التاريخ الذى يقتصر الاهتمام به على الأكاديميين. كانت العشرية الممتدة بين حرب الخليج الأولى والانتفاضة الفلسطينية الثانية حبلى بالصراع السياسى بين اليمين واليسار فى إسرائيل، وحبلى بفرص حقيقية للتوصل لتسوية تاريخية بين العرب وإسرائيل. فى عام 1991، عقب حرب الخليج، سعت الولاياتالمتحدة لجمع العرب والإسرائيليين فى مؤتمر مدريد للسلام، الأمر الذى رفضه زعيم الليكود, رئيس وزراء إسرائيل إسحق شامير. أجبر الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب رئيس وزراء إسرائيل على بدء التفاوض مع العرب والفلسطينيين، فتوعدهم شامير بمفاوضات تستمر لمائة عام. فاز حزب العمل اليسارى بقيادة اسحق رابين بانتخابات عام 1992، وتوصل فى العام التالى لاتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، فقام متطرف قومى يهودى باغتيال رابين عام 1995. فاز الليكود وبنيامين نيتانياهو بانتخابات عام 1996، وتعطلت عملية سلام أوسلو لثلاث سنوات. عاد اليسار للحكم فى عام 1999، وتجددت الآمال فى التوصل لاتفاق سلام، وانعقدت فى عام 2000 مفاوضات كامب دافيد بين رئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود باراك والقائد التاريخى ياسر عرفات. فشلت المفاوضات، واشتعلت الانتفاضة الثانية، وخسر اليسار انتخابات 2001، ولم يكسب أى انتخابات أخرى منذ ذلك الحين, وطوال السنوات التالية كانت القضية الفلسطينية فى كل عام فى وضع أسوأ من وضعها فى العام السابق، وخسر الفلسطينيون فى كل يوم مزيدا من الأراضى للمستوطنات الإسرائيلية، وخسروا أيضا حقوق المواطنة التى كانوا يتمتعون بها داخل إسرائيل. كان الإسرائيليون فى الماضى ينقسمون حول القضية الفلسطينية، وكان العرب يتابعون باهتمام السباق الانتخابى فى إسرائيل، لكن الراديكاليين العرب من القوميين والحمساويين وجماعة حزب الله كانوا يسخرون من كل هذا، زاعمين أن الخلافات بين الإسرائيليين ما هى إلا مسرحيات وتقسيم أدوار متفق عليه، وأن انشغال العرب بهذه المسرحية الهزلية ما هو إلا إهدار للوقت وخداع للأمة، وصرف لها عن النضال الحقيقى من أجل فلسطين, وذهبوا إلى القول بأن إسرائيل تحت حكم اليمين هى أفضل كثيرا للعرب، لما فى ذلك من إسقاط لكل الأقنعة المزيفة وكشف لوجه إسرائيل الحقيقي, ولما فيه من وضع للأمة العربية والإسلامية أمام مسئولياتها، وتحفيز لهمم العرب والمسلمين للتصدى للغطرسة الإسرائيلية التى تكشف حكومات اليمين وجهها القبيح. لقد تحققت أمنيات الراديكاليين من القوميين والإسلاميين، وأوشك اليسار الإسرائيلى على الاختفاء نهائيا من المسرح، ولم تعد إسرائيل تقدم لنا سوى وجه واحد قبيح، ولم يعد العرب يهتمون بمتابعة الانتخابات الإسرائيلية. لكن الفلسطينيين لم يكسبوا أى شيء من وراء هذا, بل إنهم تكبدوا المزيد من الخسائر, ولم تحتشد الأمة لمواجهة العدو، بل وجدناها أكثر انقساما وانصرافا لهمومها الخاصة. مع هذا، فإن أحدا لم يقدم مراجعة فكرية وسياسية تشرح ما حدث, ولم يخرج علينا أحد ليعترف بالخطأ، ويعتذر عن إهانة المفاوضين الفتحاويين لحساب الاستشهاديين الحمساويين، وعن احتقار الجيوش النظامية لحساب عصابات حزب الله المسلحة؛ وعن رفع صور حسن نصر الله إلى جانب صور عبد الناصر وجيفارا. لم يعتذر أحد حتى بعد أن بات واضحا للكافة أن حماس قد قنعت بدويلة غزة، وأن حزب الله ليس أكثر من ميليشيا طائفية تحركها إيران. فلندرس خبرات الماضى علنا نتعلم شيئا من تجاربنا، ولنضع كل هذه الدروس أمام أعيننا، ونشرع فى تطوير استراتيجية جديدة لاستعادة الحق الفلسطيني, وإعادة بناء العالم العربي. لمزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد