عرفت مصر ظاهرة الصحافة منذ أكثر من مائتى عام، فى أواخر القرن الثامن عشر، وهى فترة زمنية ليست قصيرة جعلت الصحافة المصرية جزءًا أصيلًا من تاريخ الوطن، ولعل من يقرأ تاريخ مصر الحديث والمعاصر خلال سنوات القرنين التاسع عشر والعشرين يكتشف بسهولة كيف أن الصحف مثلت جانبًا مُهمًا من تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وكان للكثير من الصحف دور بارز فى مسيرة التنوير وتجديد الفكر والثقافة، فى كل الأنشطة المجتمعية ومجالات المعرفة الإنسانية كافة، كما أن مصر وإن عرفت زعامات سياسية فإنها عرفت أيضًا زعامات صحفية، اهتم الجمهور بمتابعتهم والقراءة لهم وتبنى مواقفهم وأفكارهم. ويتفق المؤرخون على أن الصحف، بمختلف أشكالها وتنوع مضامينها، بمثابة سجل يومى للقضايا والأحداث، فإن أحداث اليوم سوف تصبح تاريخًا فى الغد، ما يُسهم فى تدوين تاريخ المصريين الحديث والمعاصر، من خلال رؤية بحثية شاملة تأخذ فى الاعتبار الأبعاد المجتمعية المختلفة، ما يعنى أن الاستمرار فى دراسة تاريخ الصحافة وتدريسه يُعد واجبًا وطنيًا يحفظ التراث الثقافى والإنتاج الفكرى للصحفيين وغيرهم من المثقفين والمفكرين، ممن شهدت صفحات الصحف أفكارهم ونتاج أقلامهم وإبداعاتهم، ومن ثم فإن الاستمرار فى إعداد بحوث تاريخ الصحافة المصرية يضمن اكتشاف التاريخ السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى للمواطنين المصريين، كما تساعد دراسة تاريخ الصحافة على استيعاب العملية الصحفية وفهم الكثير من الظواهر المجتمعية للحاضر الذى نعيشه، والانطلاق نحو المستقبل الذى نصبو ونتطلع إليه. وقد مثلت بحوث تاريخ الصحافة الانطلاقة الأولى فى بحوث ودراسات الصحافة والإعلام، ربما منذ تأسيس معهد التحرير والترجمة والصحافة داخل جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًا) عام 1939م، إلا أن هذا المجال شهد تراجعًا ملحوظًا مع الوقت، لأسباب متنوعة، منها الاهتمام بمجالات بحثية جديدة والاستجابة لمتطلبات سوق العمل، وإن استمرت بحوث تاريخ الصحافة بفضل باحثين ينتمون لمجالات التاريخ العام وآداب اللغة مع بعض من باحثى الصحافة، حيث تتنوع مجالات بحوث ودراسات تاريخ الصحافة لتشمل بحوث دراسة الشخصيات الصحفية، مسيرة الصحافة وتاريخ الصحف، وموقف الصحف واتجاهاتها من قضايا المجتمع، وتاريخ الصحافة وآداب اللغة، وتطور الفنون الصحفية، وإشكاليات تاريخ الصحافة، بالإضافة إلى عدد من الدراسات التى جمعت بين أكثر من مجال بحثي. وإذا كانت السنوات الماضية قد شهدت رحيل عدد غير قليل من كبار الصحفيين منهم مثلًا لا حصرًا الأساتذة الأجلّاء أنطون سيدهم (1995م) وسعد هجرس(2004م) وعبد الوهاب مطاوع(2004م) ورفعت السعيد(2017م) وصلاح عيسي(2017م) وعبد العال الباقوري(2018م) ونبيل زكي(2019م) وغيرهم، فقد رحلت معهم صفحات مهمة من تاريخ ذاكرتنا الصحفية. هنا تساؤلات مهمة تطرح نفسها، هل يهتم كبار الصحفيين والصحفيات، أمد الله فى عمرهم ومتعهم بالصحة والعافية، بكتابة وتسجيل تجاربهم الصحفية وذكرياتهم المهنية التى تُمثل جانبًا مُهمًا من تاريخ الصحافة؟ ماذا عن المكتبات الخاصة التى تحتوى كنوزًا صحفية مهمة؟ وماذا عن دور الكتب العربية والأجنبية التى تحوى تراثًا صحفيًا مصريًا قد يكون غير متوافر فى مصر؟... أذكر أن هناك تجارب مؤسسية محدودة تعلقت بكتابة تاريخ الصحافة، منها تجربة مركز التراث الصحفى بكلية الإعلام جامعة القاهرة الذى أسسته د.عواطف عبد الرحمن، واستمر المركز سنوات دون إنتاج يُذكر فى صالح الهدف الذى تأسس من أجله، ليتوقف المركز عن العمل حيث عانى غياب التمويل وضعف الاهتمام، بينما نجحت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) فى إعداد موسوعة عن أعلام الصحافة فى الوطن العربى بجهود مجموعة من الباحثين فى تسعينيات القرن العشرين. إننى أدعو إلى مشروع قومى يتعلق بكتابة تاريخ الصحافة المصرية، تتبناه نقابة الصحفيين بالتعاون مع المؤسسات الصحفية، والهيئة الوطنية للصحافة، والهيئة العامة للاستعلامات التى تحتفظ بملفات الصحف القديمة، ودار الكتب والوثائق المصرية، ومكتبات البلديات، وأقسام ومعاهد وكليات الإعلام والمراكز البحثية المعنية والهيئات الدولية المهتمة بحفظ التراث مثل اليونسكو والإيسيسكو والأليكسو، وغيرها، عبر تشكيل فريق عمل يضم عددًا من الأكاديميين المعنيين والصحفيين المهتمين بتاريخ الصحافة يعاونهم عدد من شباب الباحثين والصحفيين، فإننا أمام مهمة وطنية وواجب قومى والتزام أصيل أمام الأجيال الجديدة من شباب الصحفيين والباحثين بوجه خاص، والذاكرة الجمعية للمواطنين بوجه عام. لمزيد من مقالات د. رامى عطا صديق