«أحكى لك حكاية؟!» جملة ظلت خديجة هانم تكررها فى الحلقات الأخيرة من مسلسل «أهو دا اللى صار»، لكنها أبدا لم تنتظر ردا من حفيدها الذى تفاوتت ردود فعله، لتتراوح ما بين الملل الشديد و بين حضور مادى باهت، تاركا العنان لأفكاره لتنطلق لما وراء أسوار القصر أو فضول يدفعه أحيانا للإصغاء والسؤال!. ظلت تسترسل فى حكاياتها عن قصر بات خاويا وانطفأت أنواره بعد رحيل الأحباء،وعن ثلاثة أيام بالتحديد وكأنها فى انتظارها المُمٍض للحظة الغروب تستعيد زمنا، بات السلوى والملاذ. و على الرغم من أن الباحثة الأمريكية وأستاذة علم الاجتماع بمعهد ماساشوسيتس التكنولوجى «شيرى تركل» لا تعرف عبد الرحيم كمال مؤلف المسلسل، ومن المستحيل أن تكون قد قرأت السيناريو أو شاهدت العمل التليفزيونى، فإنها فى كتابها «عزلة جماعية»، الذى تناولت فيه نتائج عدد من الدراسات أجرتها فى الولاياتالمتحدة حول استخدام الإنسان لتطبيقات الذكاء الاصطناعى، استشهدت بمثال طبق الأصل لخديجة هانم التى تستعيد ذكرياتها ولكن باستخدام الروبوت بديلا للإنسان أو للحفيد فى المسلسل، فتقول: «الناس تعتبر أن الروبوت وسيلة مثالية لرفقة العجائز ورعايتهم، ولكنى أرى الموقف من منظور أخلاقي، فالكبار من حقهم أن يرووا حكايات عن حياتهم ..عن لحظات فرح ولحظات فقدوا فيها الرفيق والأطفال..عن تجاربهم فى الحياة .. كيف يروى المرء قصة حياته لجماد لا يعرف ما الحياة أو معنى الخسارة والفقدان؟!». وهنا تتساءل تركل: «هل القرين الافتراضى والخيال الاصطناعى والروبوت قادرة على أن تمنح الإنسان نفس ما تمنحه له رفقة البشر من مشاعر وتعاطف وتفهم ؟». تجيب تركل قائلة: «عندما بدأنا نتحدث عن تأثير المنجزات التكنولوجية على الإنسان والعلاقات الاجتماعية فى سبعينيات القرن الماضى كان الحديث مقصورا على تأكيد أن كل ما يتعامل معه الإنسان فى سياق خيال يدرك بعقله أنه مصطنع ولا يساوى الواقع أو يُعد بديلا عنه، لكن الوضع تغير فبعض الناس لا يرون غضاضة فى تبادل الحديث مع الروبوت و«السيرى» -الأصوات المصطنعة على الأى فون- ويتناسون فى سبيل التغلب على شعورهم بالوحدة أن هذه الأدوات لا تفهمهم بحق أو تتعاطف معهم أو تستوعب تجاربهم أو تستمتع بحديثهم، وهذا شىء لا أخلاقى ولا يمت للرحمة بصلة..». وتستطرد قائلة: «من المهم أن ندرك أن التواصل ليس مجرد حدوتة تكنولوجية، إنه حكاية تطور الإنسان.. إننا نطلب ونتوقع الكثير من التكنولوجى وأقل القليل من بعضنا البعض.. علينا أن نعيد النظر فى كثير من المفاهيم مثل رفاهية الإنسان والرعاية والعناية التى يحتاجها الصغار والكبار كى لا نَتزيد فى الاعتماد على الروبوت أو تطبيقات الكمبيوتر ونعتبرها البديل السحرى للتواصل بين البشر». الحقيقة أن التساؤلات التى طرحتها تركل حول علاقة الإنسان وتفاعله مع تطبيقات الذكاء الاصطناعى وما عرضته من نتائج دراستها لا تزال الشغل الشاغل للمفكرين والباحثين فى شتى مجالات المعرفة، بعد أن تجاوزوا مرحلة المناقشات السفسطائية وأفلام الرعب والخيال العلمى التى تتنبأ بزمن ينقلب فيه السحر على الساحر لتحتل فيه الروبوتات الكرة الأرضية وتتسيد على البشر الأغبياء. وفى هذا السياق ظهرت مفاهيم ودراسات تتناول كيفية معالجة العقل البشرى للمعلومات والبيانات التى يتلقاها فى حياتنا اليومية ومقارنتها بالعمليات التى تتم فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى لاكتشاف وسائل تحقق أقصى استفادة من قدرات الإنسان والحواسب الآلية وتتفادى أوجه قصورهما، وتداعيات عملية مشاركة البيانات ومعالجتها، ومتغيرات عمليات التواصل والتفكير وتأثيرها على منظومة القيم الاجتماعية والمهنية. وبينما عبر بعض المفكرين عن تخوفهم من إمكانات التكنولوجيا الحالية التى تطرح أسئلة فلسفية وتستحضر مخاطر وقضايا أخلاقية جديدة على مستوى الفرد والمجتمع، اعتبر البعض الآخر أن ما نواجهه اليوم ليس بالأمر الجديد على البشرية، فتقنيات التكنولوجيا منذ اختراع ماكينات الطباعة والهواتف وغيرها،غيرت نظرتنا للعالم. وللحديث بقية. لمزيد من مقالات سناء صليحة