لم تحظ أى انتخابات أجنبية فى روسيا بمثل الاهتمام الذى حظيت به الانتخابات الرئاسية الاوكرانية، التى تابعتها موسكو من منظور، أقل ما يقال عنه انه كان بعيدا عن الحيادية تجاه معظم المرشحين الذين بلغ عددهم 39 مرشحا. ولعلنا نكون أكثر انصافا إذا اعترفنا بأن ما شنته موسكو من حملات إعلامية كاملة العدد ضد الرئيس الأوكرانى الحالى بيترو بوروشينكو, الذى يخوض هذه الانتخابات طمعا فى الفوز بولاية ثانية، لم يسفر عن بلوغ الهدف المنشود، بل وقد يكون ساهم دون قصد فى مساعدته على تجاوز بعض ما تناثر على الطريق من عقبات كادت تطيح بآماله فى خوض الجولة الثانية من هذه الانتخابات . حفلت القنوات التليفزيونية والإذاعات الروسية بكثير من النقد الحاد الذى تجاوز فى بعض جوانبه ما قيل حول حيادية الدولة الروسية تجاه العملية الانتخابية فى أوكرانيا. وما إن أعلنت اللجنة المركزية للانتخابات فى اوكرانيا عن النتائج الاولية لهذه الانتخابات، والتى أسفرت عن حصول فلاديمير زيلينسكى الفنان الكوميدى على نسبة تزيد قليلا على 30% ، متقدما عن الرئيس الحالى بيترو بوروشينكو بما يقرب من ضعف ما حصل عليه من أصوات زادت قليلا على 16%، حتى عادت موسكو لتبحث من جديد عن مخرج قد يكون سبيلا للتخلص من رئيس لم يكن له هَم خلال السنوات الخمس الماضية سوى الاغراق فى عدائه لروسيا ومحاولة تقويض مصالحها فى المنطقة. وبعيدا عن نتائج انتخابات الجولة الاولى التى صارت فى متناول المتابعين والمهتمين بالشأن الاوكراني، نقول ان العودة اليها لم تعد مهمة، إلا بقدر كونها تفسيرا للكثير من مفردات توازنات القوى التى تحدد ملامح معركة انتخابات جولة الإعادة. وفى هذا الصدد نشير الى ان يوليا تيموشينكو اميرة الثورة البرتقالية وزعيمة حزب «باتكيفشينا» والتى خرجت من السباق بعد ان حَلت ثالثة فى قائمة المرشحين بنسبة أصوات تبلغ زهاء 13%، ورغم أنها ليست أقل عداء لموسكو من بوروشينكو فضلا عن عدوانيتها الصارخة ضد اقاليم جنوب شرق أوكرانيا التى تجنح نحو الانفصال عن أوكرانيا، فإنها تظل قيد اهتمام موسكو بقدر ما يمكن أن تضيفه أصوات ناخبيها إلى رصيد فارس الجولة الاولى زيلينسكى الذى فاق ما حصل عليه من أصوات كل التوقعات وهو الذى لا يزال يفتقر للخبرات السياسية وحنكة رجل الدولة، على النقيض من العديد من منافسيه الذين يعكفون اليوم على دراسة اسباب الفشل والقصور وامكانية الاستفادة منهما، لتعويضهما فى الانتخابات البرلمانية المرتقبة مع نهاية العام الحالى. ورغم مواصلة تيموشينكو وأنصارها لحملات التشكيك فى نزاهة الانتخابات والتركيز على ما شابها من قصور وتجاوزات ارتكبها بالدرجة الاولى منافسها الرئيسى بوروشينكو، واكد المراقبون وبعثة منظمة الأمن والتعاون الاوروبى انها لم تكن لتؤثر على النتائج المعلنة، يتوقف المراقبون عند متابعة ما يجرى تسريبه من أخبار حول اتصالات سرية تجرى مع معسكر نجم السباق الفنان فلاديمير زيلينسكي، حول احتمالات استدعائها الى النسق الأعلى للسلطة فى منصب رئيس الحكومة فى حال فوز زيلينسكى فى انتخابات الاعادة المقررة فى 21 ابريل الحالى. لكن هناك من ممثلى الجانبين من ينفى هذه الأخبار، فى توقيت يشعر فيه الشارع الأوكرانى بالحيرة أمام إصرار تيموشينكو على اعتبارها الفائزة بالمركز الثانى بما يعنى ضرورة خوضها الجولة الثانية، وهو ما يبدو على غير وفاق مع المنطق والواقع. وبينما تواصل تيموشينكو محاولاتها التشكيك فى نتائج الانتخابات، يعكف كل من زيلينسكى وكذلك بوروشينكو على دراسة ما شاب العملية الانتخابية من قصور، فى محاولة لتلمس السبل الرامية الى استقطاب كتلة اصوات ناخبى تيموشينكو وغيرها من نجوم الجولة الاولى ومنهم يورى بويكو زعيم التحالف المدنى المعارض الذى حل رابعا وخمسة من المرشحين الآخرين. بل وهناك من يقول إن بوروشينكو أفصح عن سيناريو سوف يحاول من خلاله استقطاب ناخبى زيلينسكى الفائز بالمركز الاول، وكانوا فى معظمهم من الشباب الذين سئموا كل نجوم السنوات الماضية ممن يعزون اليهم كل ما تكبدته أوكرانيا من خسائر وما عاشته من أزمات وحروب. وإذا أضفنا إلى ذلك ما يقولونه حول ان بوروشينكو سوف يكثف ما بدأه من محاولات تسخير ماكينة الجهاز الإدارى للدولة لحشد ما يلزمه من أصوات، من مواقعه التى لا يزال يحتفظ بها ومنها رئاسة الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة، فضلا عن علاقاته مع ممثلى النسق الاعلى للسلطة. ويقولون ايضا انه سوف يبذل قصارى جهده، ويسخر كل ما لديه من اسلحة من أجل تحقيق الفوز انطلاقا من أن تحقيق الفوز بالنسبة له مسألة حياة او موت، وإن كان هناك من يقول ان ذلك يكاد يكون بعيد المنال، نظرا للفارق الهائل الذى يفصله عن مواقع زيلينسكي. وفى هذا الصدد يقولون: إن محاولات «التزوير» «ورشوة الناخبين»، ان جاز هذا القول، لا يمكن وفى حال الإقدام عليها ان تأتى بأكثر من 15-20 % ، فى الوقت الذى ينشط فيه خصوم بوروشينكو سعيا وراء تعويض الفارق فى الاصوات بينه وبين زيلينسكى الذى يحظى بشعبية طاغية، تعود فى الكثير من جانبها الى السخط الشديد ضد رموز الماضي، وهو ما ينذر باحتمالات قد تنسف العملية الانتخابية من أساسها وتعيد مشاهد الثورة البرتقالية فى عام 2004 التى أرغمت الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش على قبول خوض «جولة ثالثة»، خسرها أمام زعيم الثورة فيكتور يوشينكو ورفيقته تيموشينكو التى قبلت آنذاك منصب رئيس الحكومة. ونعود لنقول: إن «القول الفصل» فى هذا الشأن يظل يكتنفه غموض كثير، وإن الايام القليلة المقبلة حتى الحادى والعشرين من ابريل الحالى سوف تشهد احتدام كثير من الجدل والمعارك الاعلامية، المدعومة فى بعض جوانبها من جانب ممثلى الدوائر الخارجية، التى تواصل اللعب على أوتار رغبات الكثيرين من الاوكرانيين ممن صاروا يربطون «ازدهار الوطن» وتجاوز«عثراته وكبواته الاقتصاية»، باللحاق بقطار الاتحاد الأوروبى والناتو. وفى هذا الشأن تحديداً يبدو بوروشينكو فى موقع أفضل نسبيا بما حققه من نجاح نسبى نتيجة توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الاوروبي، وحصول الاوكرانيين على حق حرية التنقل مع بلدان الاتحاد الاوروبي، وهو ما قد يضيف الى رصيده أصواتا، يبدو ما يشبه الاجماع انها لن تكفيه لتحقيق الفوز على زيلينسكي. لكن ماذا عن موقف الكرملين من هذه الانتخابات ؟ الواقع يقول: إن الكرملين ورغم كل ما يصدر عنه من تصريحات حول انه لم يحدد موقفه بعد ، وانه لا يتدخل فى الشئون الداخلية لأوكرانيا، يظل عند موقفه الرافض للتعامل مع الرئيس الحالى بوروشينكو، ويريد، وإن لم يعلن ذلك، شخصية أخرى يمكن أن تقبل الحوار مع ممثلى اقاليم جنوب شرق أوكرانيا التى تناصب السلطة الحالية فى كييف العداء مع الإعلان عن الاستعداد لتقديم بعض التنازلات ، سبق وقبل بها بوروشينكو لدى توقيعه اتفاقيات مينسك بمشاركة زعماء ألمانيا وفرنسا وروسيا فى عام 2015. وذلك ما قد يقود الى انفراجة نسبية مع موسكو تستند إلى ما قد يتحقق من استجابة لمطالب شعوب جنوب شرق اوكرانيا فى الاعتراف بحقوقها القومية، ورغبتها فى الإدارة الذاتية.