الدولار يتراجع.. أسعار العملات اليوم الثلاثاء بالبنك المركزي (تفاصيل)    محافظ كفرالشيخ: توريد 178 ألف طن من القمح وصرف مستحقات المزارعين بانتظام    ترامب: أبلغت الرئيس الروسي بضرورة وقف إراقة الدماء في أوكرانيا    الحوثيون يُعلنون حظرًا بحريًا على ميناء حيفا في إسرائيل.. ما السبب؟    «تليق يا مو».. كيف تفاعلت جماهير ليفربول مع قرار سلوت تجاه صلاح؟    التعليم تكشف عن سن التقديم لمرحلة رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي    مهرجان كان يعدل جدول أعماله بسبب دينزل واشنطن ويفاجئه بجائزة "السعفة الذهبية الفخرية" (فيديو)    فلسطين.. الطائرات الإسرائيلية تشن 10 غارات على شرق غزة وجباليا شمال القطاع    نتنياهو: الحرب يمكن أن تنتهي غدا إذا تم إطلاق سراح الرهائن المتبقين    الملاذ الآمن يتألق من جديد.. ارتفاع ب أسعار الذهب مع تراجع الدولار وتصنيف «موديز»    أحدها لم يحدث منذ 2004.. أرقام من خسارة ليفربول أمام برايتون    لحل أزمة استقالة كامل أبو علي.. جلسة طارئة مع محافظ بورسعيد    أحمد دياب: إيقاف النشاط أمر غير وارد    عاجل| عرض خليجي خرافي لضم إمام عاشور.. وهكذا رد الأهلي    صيام صلاح مرة أخرى.. ترتيب هدافي الدوري الإنجليزي الممتاز بعد خسارة ليفربول    الأهلي والزمالك.. من يتأهل لنهائي دوري السوبر لكرة السلة؟    تكريم طالبين بجامعة عين شمس لحصولهما على جائزة بمسابقة عمرانية    4 قرارات عاجلة من النيابة بشأن بلاغ سرقة فيلا نوال الدجوي    نفوق 10 آلاف دجاجة.. 7 سيارات إطفاء للسيطرة على حريق بمزرعة دواجن بالفيوم- صور    الأرصاد تُحذر: شبورة ورياح مثيرة للرمال والأتربة على هذه المناطق اليوم    حبس شاب متهم بالشروع في قتل آخر بالعياط    إصابة 3 أشخاص في مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بسوهاج    مشروعات عملاقة تنفذ على أرض أشمون.. تعرف عليها    الإفتاء: لا يجوز ترك الصلاة تحت اي ظرف    فضل حج بيت الله الحرام وما هو الحج المبرور؟.. الأزهر للفتوى يوضح    محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل ويشدد على سرعة الإنجاز (صور)    سيلان الأنف المزمن.. 5 أسباب علمية وراء المشكلة المزعجة وحلول فعالة للتخفيف    رئيس شعبة مواد البناء: لولا تدخل الحكومة لارتفع سعر طن الأسمنت إلى 5000 جنيه    إغلاق 7 منشآت طبية مخالفة و7 محال تجارية فى حملة بقنا    «ليست النسخة النهائية».. أول تعليق من «الأعلى للإعلام» على إعلان الأهلي (فيديو)    منافس الزمالك في ربع نهائي كأس الكؤوس الأفريقية لليد    هل يوجد في مصر فقاعة عقارية؟.. أحمد صبور يُجيب    شعبة المواد الغذائية تكشف 4 أسباب لعدم انخفاض أسعار اللحوم مقارنة بالسلع التموينية (خاص)    وفد قبطي من الكنيسة الأرثوذكسية يلتقي بابا الڤاتيكان الجديد    سامي شاهين أمينا للحماية الاجتماعية بالجبهة الوطنية - (تفاصيل)    جامعة حلوان تنظم ندوة التداخل البيني لمواجهة تحديات الحياة الأسرية    بعد نجل محمد رمضان.. مشاجرات أبناء الذوات عرض مستمر في نيو جيزة| فيديو    وزير الاستثمار يتوجه للعاصمة الألمانية برلين لتعزيز العلاقات الاقتصادية المشتركة بين البلدين    عليك إعادة تقييم أسلوبك.. برج الجدي اليوم 20 مايو    تامر أمين ينتقد وزير الثقافة لإغلاق 120 وحدة ثقافية: «ده إحنا في عرض مكتبة متر وكتاب»    "يا بختك يا أبو زهرة".. الصحفي محمد العزبي يكشف تفاصيل وقف معاشه بعد بلوغه ال90 عاما    حدث بالفن | حقيقة إصابة عبدالرحمن أبو زهرة ب "الزهايمر" وموعد حفل زفاف مسلم    موعد نقل القناع الذهبي لتوت عنخ آمون إلى المتحف المصري الكبير    أستاذ علاقات دولية: الاتفاق بين الهند وباكستان محفوف بالمخاطر    ما مصير إعلان اتصالات بعد شكوى الزمالك؟.. رئيس المجلس الأعلى للإعلام يوضح    4 أبراج «زي الصخر».. أقوياء لا ينكسرون ويتصرفون بحكمة في المواقف العصيبة    استشهاد 10 فلسطينيين بينهم أم وأطفالها الستة في قصف للاحتلال على قطاع غزة    ترامب يوقع مشروع قانون يجعل نشر الصور الإباحية الانتقامية جريمة اتحادية    سلطات فرنسا تعلن مصرع مهاجر وإنقاذ أكثر من 60 آخرين فى بحر المانش    سرعة الانتهاء من الأعمال.. محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل    وزير العمل: قريباً توقيع اتفاقية توظيف للعمالة المصرية في صربيا    هل يجوز للمرأة أداء فريضة الحج عن زوجها أو شقيقها؟.. أمينة الفتوى: هناك شروط    «للرجال 5 أطعمة تحميك من سرطان البروستاتا».. تعرف عليهم واحرص على تناولهم    خالد الجندي: الحجاب لم يُفرض إلا لحماية المرأة وتكريمها    مزارع الدواجن آمنة إعلامى الوزراء: لم نرصد أى متحورات أو فيروسات    ما حكم صيام يوم عرفة للحاج وغير الحاج؟    رئيس جامعة دمياط يفتتح المعرض البيئي بكلية العلوم    موعد امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنيا 2025.. جدول رسمي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
عن ثقافة التخلف
نشر في الأهرام اليومي يوم 05 - 04 - 2019

ظهرت الطبعة الأولى من كتابى «نقد ثقافة التخلف» سنة‮ ‬2007‮ ‬عن دار الشروق المصرية‮. ‬وكان هذا النشر بمثابة تحذير من كل جوانب التخلف التى أنشبت أظفارها فى جسد الثقافة المصرية،‮ ‬والآن بعد مضى اثنى عشر عاما على صدور هذه الطبعة فمن الواضح أن أظفار التخلف أوأنيابه قد تحولت إلى رصاصات وقنابل ومتفجرات إرهاب دينى لا‮ ‬ينفجر فى العالم الإسلامى وحده، وإنما‮ ‬يتحول إلي‮ ‬غول بشع‮ ‬يفرض ظله الأسود على كل أنحاء المعمورة الإنسانية،‮ ‬فقد تعولم الإرهاب الدينى وأصبحت مظاهره مرتبطة بثقافة خاصة أساسها‮: ‬التعصب والأصولية وكراهة الجديد ورفض الآخر وتحريم التنوع الخلاق أوالتعدد الفكرى،‮ ‬فى بنية الثقافة سواء على مستوى العالم الإسلامى أوالعالم العربى أوالعالم كله‮.‬
وللأسف أصبح الإسلام الذى هودين العقل والمحبة والتسامح والحرية والعدالة الاجتماعية‮ - ‬فى تأويلاته السلفية الجامدة‮ - ‬مبررا للإرهاب واغتيال الآخر،‮ ‬فى صياغة ثقافية لا تعرف معنى الحوار أومبادئ التعدد أوالحرية،‮ ‬واصمة كل من‮ ‬يخالفها بالكفر والخروج على الدين،‮ ‬متحالفة مع كل أنظمة الحكم الاستبدادى سواء فى العالم الإسلامى،‮ ‬أوالعالم العربى،‮ ‬فكانت النتيجة تصاعد عدد الضحايا من الإرهاب الذين جاوزوا الآلاف المؤلفة ابتداء من جريمة سبتمبر‮ ‬2001‮ (‬تدمير مركز التجارة العالمى فى نيويورك‮) ‬وليس انتهاءا بتفجير مجلة‮ (‬شارل إبدو‮) ‬الفرنسية فى باريس (2015)،‮ ‬أوتفجير مسجد الروضة فى سيناء‮ (‬نوفمبر‮ ‬ 2017) ‮‬أضف إلى ذلك قتل المسيحيين فى مناطق كثيرة من العالم العربى الإسلامى أوطردهم من منازلهم على نحوما حدث فى محافظة المنيا المصرية مؤخرا،‮ ‬أوما جاء بعده من قتل إرهابى فى نيوزيلندا‮ (‬مارس‮ ‬2019)‮‬،‮ ‬وهوالأمر الذي‮ ‬ينذر بمخاطر أعظم،‮ ‬ويدعوإلى ارتفاع صوت التحذير من الأخطار التى تهدد مستقبل العالم الإسلامى وتحول دون تقدمه‮. ‬وها نحن نرى مظاهر الإرهاب الدينى تتكرر فى مصر وفي‮ ‬غيرها من دول العالم‮. ‬فضلا عما سبق من مظاهر إرهاب دينى،‮ ‬لم‮ ‬يعد‮ ‬ينفع معها ما‮ ‬يسمى ب‮ «‬بيت العائلة المصرية‮» ‬أوالمصالحات الشكلية التى تقوم على المصافحات التى لا معنى لها بين المشايخ والقسس. فظواهر الإرهاب الدينى أكبر بكثير فى مخاطرها من أن تحل عن طريق هذه المصالحات الشكلية أوالتلفزيونية‮. ‬والحق أن مخاطرها تدعوإلى المزيد من الكتابة عن الثقافة التي‮ ‬يستند إليها الإرهاب الدينى، وهى ما أطلقتُ‮ ‬عليه‮ «ثقافة التخلف‮» ‬الذي‮ ‬يغدونقدها ونقضها المستمر أمرا حتميا فى صناعة مستقبل أفضل لوطننا المصرى ولأمتنا العربية وللعالم كله على السواء‮. ‬وكلها ضرورات دفعتنى إلى إعادة النظر فى الطبعة الأولى من الكتاب والإضافة إليها‮. ‬ولذلك أجد نفسى مضطرا إلى إعادة طبع هذا الكتاب‮ - ‬خصوصا بعد نفاد طبعته الأولي‮ - ‬ليصل التحذير مرة أخرى،‮ ‬فهذه هى مهمة المثقف كما أراها فى كل ما كتبتُ‮ ‬عن الاستنارة وثقافة التقدم التى تعادى ثقافة التخلف وتحاول استئصالها‮.
‬ورغم أن السياق وموضوعات الكتاب توضِّح المقاصد التى يهدف إليها، فإن المعنى الرئيسى للكتاب كله لن يكتمل إلا بتوضيحٍ أشمل لمفردات العنوان. فأنا أستخدم كلمة «نقد» بالمعنى الفلسفى الذى يُرادف الكلمة الفرنسية «Critique»، وهومعنى يتصل بالنظر فى قيمة الموضوع المُشار إليه، خصوصا من حيث شروط إمكانه وحدوده، قياسا على ما يذهب إليه دارسوالفلسفة من أن «نقد العقل المحض، هوالنظر فى قيمة العقل من حيث هوميزان توزن به الأمور النظرية، ونقد العقل العملى هوالنظر فى قيمة العقل من حيث هوميزان توزن به أفعال الإنسان، فالغاية من نقد العقل المحض هى الوصول إلى الحقيقة، والغاية من نقد العقل العملى، هى معرفة ما يجب أن يكون عليه الإنسان فى أخلاقه». (جميل صليبا: المعجم الفلسفى). وهذا فَهْم يوضِّح ما أقصد إليه بمعنى «النقد» الذى يتصدر عنوان الكتاب، فالدلالة فيه أقرب إلى دلالة «المساءلة» التى يمكن أن تؤدى إلى «النقض»، ذلك لأنى كنتُ – ولا أزال- أعنى ب «نقد ثقافة التخلف»: البحث عن الأسباب والمُكوِّنات والعوامل التى تؤسس ما أُسمِّيه: «ثقافة التخلف».
وأذكرُ أننى عندما أهديتُ نسخة من الطبعة الأولى إلى قداسة البابا شنودة، عليه رحمة الله، ابتسم قائلا لى سؤالا يكشف عن بعض مفاهيمه: «وهل هناك ثقافة للتخلف؟!» وكان سؤاله يعنى أنه كان يتصور أن الثقافة فى كل الأحوال هى شىء إيجابى، وأن المثقف هوالكائن المُستنير، كما أن الثقافة فى كل أحوالها تؤدى إلى الاستنارة. وقد كان الرجل المثقف عنده يعنى الرجل المتعلم الفاهم لوضعه الفردى والاجتماعى والسياسى فى ضوء استنارته المُفترض وجودها فيه فى كل الأحوال.
ولم يكن هذا المعنى الإيجابى الدائم للثقافة صحيحا فى ذهنى، فأنا أفهم «الثقافة» بمعناها المُحايد أوالأنثربولوﭽى إذا شئت التحديد، فالثقافة هى رؤية العالم أوأسلوب الحياة، وهى بهذا المعنى يمكن أن تتصف بالإيجاب أوتتصف بالسلب، ومن ثم يمكن أن يكون هناك ثقافة للتقدم أوثقافة للتخلف. وهذا هوالفارق – مثلا - بين ثقافة التعصب الدينى، أوثقافة التسامح الدينى، أوبعبارة أخرى، ثقافة التَّنوع الذى يحترم الاختلاف فى كل مجال بما فى ذلك الأديان، أوثقافة التعصب التى ترفض الاختلاف فى أى مجال، ومن ثم ترى فى المُختلِف عدوّا يستحق النبذ أوالعقاب أوحتى الإبادة، ولذلك فالمجتمعات المُتخلِّفة كالمجتمعات المتقدمة عندها ثقافة، لكن الأولى – أى المُتخلِّفة - تتمسك بثقافة التخلف، بينما الثانية - أى المتقدمة - توسِّع من آفاق ثقافة التقدم، ولا تتوقف عن ممارسة أفعال التقدم نفسها على طريق التطور الذى لا نهاية لصعوده. وهذا ما يؤكد الفارق بين ثقافة أفغانستان – مثلا - تحت حُكم طالبان، وثقافة أى مجتمع ديموقراطى مدنى بالمعنى الحديث أوالمعاصر للكلمة فى ممارساته الخلاقة لِما أصبح يُسمَّي: «التنوع البشرى الخلاق»، وهذا هو– تحديدًا- ما أقصدُ إليه فى عنوان هذا الكتاب، وهومُساءلة الثقافة التى لا تزال توجد فى عالمنا العربى الإسلامى، والتى تجعلنا على ما نحن عليه من تخلُّف لا نستطيع معه أن نتقدم إلى الأمام، أوأن نُنافس غيرنا من الدول المُتقدمة على كل المستويات، سواء بالمعنى الدينى أوالاجتماعى أوالسياسى أوحتى الاقتصادى. إن «ثقافة التخلف» هى الثقافة السلبية التى تؤخِّر المجتمع وتعوقه عن التقدم، وتشيع فيه مبادئ الأنانية وعدم الاعتراف بالآخر أوالاختلاف أوحتى الوجود المُغاير، ومن ثم فهى ثقافة تتميز بالتعصب الذى يؤدى إلى الإرهاب دينيّا، وغياب الحرية الذى يؤدِّى إلى الاستبداد سياسيا، كما تتميز بالتصلب الاجتماعى الذى يؤدِّى إلى القمع والتمييز اجتماعيا - وذلك فيما يُسمِّيه المرحوم هشام شرابى ب «ثقافة المجتمع البطريركى» - وأخيرا إلى احتكار فئة بعينها لثروة المجتمع المُنغلق على نفسه بما يؤسس للدولة التَّسلُّطية، ويُبقِى عليها فى أدواتها الأيديولوﭽية التى تُشيع صفات التسلط وتُحسِّنه تحسينا تخييليّا فى وعى أفراد المجتمع لإقناعهم بضرورة بقاء الحال على ما هوعليه.
ولذلك عندما أكتبُ عن ثقافة التخلف فى هذا الكتاب، فأنا أكتبُ عن كل ما يُعيق مجتمعاتنا العربية والإسلامية عن التقدم صوب المستقبل، وعن كل ما يُسهم فى عرقلة الوعى الفردى أوالجمعى، خصوصا فى محاولته مجاوزة النواهى الاجتماعية والدينية والسياسية التى تُشيعها أدوات أيديولوﭽية تُسهم فى الإبقاء على التَّبعية السياسية والاقتصادية وعلى الاتباع الاجتماعى والفكرى والدينى على السواء. ولذلك كان لا بد من أن أتحدث فى هذا الكتاب عمّا رأيتُه أصولا لثقافة التخلف فى تشابك أبعادها الدينية والاجتماعية والسياسية والفكرية، وهى الأصول التى أدت إلى انهيار الحضارة العربية الإسلامية بعد أن أعطت هذه الحضارة ناتج ثقافة تقدمها إلى غيرها من دول المعمورة الإنسانية، فنهضت دول الغرب على أساس من أفكار ابن سينا وابن رشد، بينما انحدرنا نحن إلى الظلمات فلم نستيقظ إلا على مشارف العصر الحديث، وننتبه إلى التخلف الذى وجدنا أنفسنا عليه، فنصطدم بالغرب المُتقدِّم الذى تمثَّل فى الاستعمار الاستيطانى، وانتقلنا منه إلى الصراع مع الإمبريالية الجديدة التى حلَّت مَحلَّه، وظلت إلى أن صاغت عالما جديدا معولما يدور فى فلكها اقتصاديّا. وفى الوقت نفسه نتصارع مع أنفسنا منذ أن انقسمنا إلى مُتمسِّكٍ بثقافة التخلف بينما نزع بعضنا الآخر إلى ثقافة التقدم وبَشَّر بها ابتداء من رفاعة رافع الطهطاوى الأزهرى المُستنير إلى فرج فودة المُثقف المدنى الذى ثار على الاتباع والتبعية والتسلط الدينى والاجتماعى والسياسى على السواء. والحق أنى أرى علاقة تلازمٍ وثيق بين الثنائية الضدية التى يقف العقل والإبداع فيها نقيضا للتقليد والاتّباع، فإنَّ فَتْح الآفاق أمام العقل والإبداع كان العلامة الدالة على عصور التقدم العربى الإسلامى، وفى الوقت نفسه كانت مهاجمة العقل على حساب النقل والتقليد والاتِّباع السمة المائزة لعصور التخلف العربى.
وكلنا يعرف ما كتبه الكِنديِّ إلى الخليفة الواثق من دفاع عن الفلسفة فى وجه من هاجموا التفلسف وإعمال العقل، دفاعا عن مصالحهم أوكراسيهم المزوَّرة، وكلنا يعرف فى الوقت نفسه ما خسره الفكر العربى عندما انهزم العقل بانهزام المعتزلة مع بداية عصر المتوكل (763 805)ه، ومن ثم انتصار النزعات السلفية ومذهب أهل الحديث على العقلانية الإسلامية التى اضطرها اضطهاد العقلانية إلى الانتقال من مركز الدولة إلى أطرافها، وظل الأمر كذلك إلى أن أنطفأ الوهج الأخير للعقلانية العربية الإسلامية مع محنة ابن رشد فى الأندلس (عام 1195م) التى سرعان ما أعقبتها عصور الإظلام التى كان تخلفها قرين الهجوم على العقل والشك فيه، غير مُنفصلٍ عن تَسَيُّد الطوائف السلفية بحنبليتها المتأخرة الجامدة التى لم تتردد فى إحراق كتب الفلسفة فى ميادين العواصم الإسلامية على امتداد العالم العربى الإسلامى. ولذلك سمعنا عن حرق الكتب طوال عصور الانحدار الحضارى للثقافة العربية الإسلامية، بل وصل الأمر إلى حرق كتب الغزإلى الأشعرى فى المغرب العربى، وذلك على نحوٍ يُذكِّرنا بتكفير بعض المتشددين المعاصرين من السلفيين لفكر الأشاعرة والأشعريين مع أنه الفكر الرسمى للأزهر الشريف.
وعندما نعاود النظر إلى ميراثنا العربى الإسلامى، سنجد دائما هذه الثنائية الضدية بين فكر التخلف وفكر التقدم، مقرونة بالصراع بين العقل وانفتاحه، والنقل فى انغلاقه على التقليد. وأُضيف إلى هذه الثنائية الضدية ما يوازيها من تحالفٍ وثيق بين أصحاب النقل والتقليد من ناحية وبين استبداد الحُكّام وظلمهم من ناحية موازية، وذلك على نحوما يظهره لنا التاريخ العربى الإسلامى من تلاحم وثيق بين سلاطين الاستبداد وفقهاء السلطان.
أعنى التحالف بين الفقيه النَّقلى الذى يُرضِى السلطان المُستبد على حساب دينه النقى الذى يرفض الاستبداد، والذى كان هوالقاعدة السائدة فى فترات التخلف الإسلامى العربى التى عشنا عصورها المُظلمة لأجيال وأجيال، امتدت منذ عصر المتوكل إلى سقوط بغداد، وإغراق كُتُبها فى نهر دجلة، ومحو معالم الحضارة الإسلامية ومظاهرها العظيمة، لتبقى بعدها كتب السلفية المتأخرة ابتداء من كتاب: «فضل السلف على الخلف» لابن رجب الحنبلى وأتباعه فى الزمن الحديث، فضلا عن ابن تيمية الذى اقترن بزمن الغزوالصليبى وهزائمه التى اقترنت بغروب شمس الحضارة العربية الإسلامية.
والحق أن مجالات ثقافة التخلف مُتعددة كمجالات ثقافة التقدم، كل مجال منها يتبادل التأثر والتأثير مع غيره فى داخل مجالات كل ثقافة، فالسياسى يؤثر على الاجتماعى ويتأثر به، وذلك بالقدر الذى يؤثر به المجال الدينى على غيره من المجالات، وذلك على نحوٍ يُعطى للمجال الدينى أهمية فى المجتمعات التى يَقلُّ فيها التعليم المدنى أوينحدر فيها الوعى الاجتماعى، فينفتح الأفق للمجال الدينى كى يُضاعِف تأثيره السلبى فى حالة سيطرة النقل الجامد أوالتقليد السلبى أوالاتّباع المذعن على هذا الأفق. وفى هذه الحالة تبرز أهمية تجديد الخطاب الدينى وتثويره، وذلك بقدر الأهمية التى ينبغى أن نُعطيها لتجديد الخطاب الاجتماعى وتغييره، جنبا إلى جنب الخطابات الأخرى التى لا تكف عن التفاعل مع الخطاب الدينى حتى لو كان أحدها أكثر تأثيرا من غيره فى بنية الثقافة العامة للمجتمع. وأعتقد أن هذا هوالحال فى مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وذلك لما للدين من تأثير عميق فى النفوس، وسيطرة تتمثل فى هيمنته على أغلب المجالات الخطابية الأخرى، وذلك على نحويمكن معه القول بأن سيطرة الخطاب الدينى – فى حال جموده- تؤثر بالسلب على كل المجالات المُغايرة للثقافة فى المجتمع كله، فتؤدى إلى زيادة تخلفه على نحو متصاعد.
ومن المؤكد أن الصراع بين التيارات العقلانية المعاصرة بكل ما تتميز به من انفتاح على عوالم التقدم، والتيارات السلفية الجامدة بكل ما تتسم به وتحافظ عليه من حماسة الدعوة إلى ثقافة التخلف فى عصرنا، هوصراع قديم يعود بجذوره إلى أصول تراثية ممتدة فى تاريخنا العربى الإسلامى. هذه الأصول هى ما دفعتنى إلى أن أُقيم ممارستى لنقد ثقافة التخلف على قسمين؛ القسم الأول: هوالأصول التاريخية أوالتراثية لثقافة التخلف ابتداء من اضطهاد المرأة والتهوين من شأنها، ذلك الاضطهاد والتهوين الذى بلغ ذروته فى كُتب ابن تيمية، مضافا إليه الأوجه المتتابعة لثقافة الاتّباع التى تصل بين الدين والأدب والفكر والمجتمع وأجهزة الدولة على كل المستويات، واصلة بين ذلك كله ولوازمه المرتبطة بنزعة عِرقية عنصرية، تُعادِى الآخر وتقمع الاختلاف والخلاف، واصلة ذلك بثقافة إذعان وسمع وطاعة لسلاطين الظلم أوالاستبداد، فى موازاة تقليد واتباع لمشايخ النقل المُعادِى للعقل المنفتح على كل المستويات وفى كل المجالات.
وعندما اتضحت هذه الأصول فى ذهنى، انتقلتُ إلى تجلياتها فى الحاضر. وهوموضوع القسم الثانى من الكتاب، حيث مظاهر ثقافة التخلف المعاصرة التى ترد تخلُّف الحاضر على جذوره القديمة فى الماضى، واصلا بين تجليات الأصول والأصول نفسها على مستويات عديدة، منها: ثقافة المرأة، وخطابات العنف، وتغييب حريات الرأى والتعبير، إلى جانب العداء للمُحدث من الآداب والفنون، فضلا عن جمود الخطاب الدينى وتخلفه عن متابعة متغيرات العصر. وأخيرا تحويل الدين إلى فعل سياسى يهدف إلى استعادة خلافة وهمية لم يعد لها مكان فى عالمنا المعاصر، وذلك باسم شعار أيديولوﭽى مؤدّاه أن «الإسلام دين ودولة» لا لشىء إلا لتأكيد الحضور الدينى بأضيق معانيه لدولة لا تعرف سوى التعصب ولا تقبل الاختلاف بأى معنى من معانيه، ولا ترضى بالحكم المدنى قط.
وكان من الطبيعى أن يدخل الفكر المستنير الذى يناقض ثقافة التخلف فى صِدام فكرى مع المجموعات السلفية والإخوانية التى لا يزال خطرها قائما على الثقافة العربية، والتى تبدودعاواها إلى التخلف ماثلة فى رفضها لمستحدثات العلوم والفنون ومظاهر الحضارة الإنسانية فى كل جوانب تقدمها، وهوالأمر الذى نراه فى فتاوى السلفيين عن الغناء والموسيقى، أوحتى عن النحت الذى اعتبرته جماعات طالبان (وما يشبهها من الجماعات السلفية العربية) كفرا صريحا، حتى لوكان قديما قِدم الآثار الفرعونية مثلا. ولذلك لم تتردد الجماعات التكفيرية الحديثة فى تحقير ما لا نزال نملكه من أجمل روائع الفن الفرعونى، تماما كما لم تتردد طالبان فى تفجير أجمل آيات النحت البارز على الجبال من المعابد البوذية، وغيرها من آثار الماضى العريق للحضارات الآسيوية فى بعض جوانبها الدينية. وهوالشيء نفسه الذى فعلته داعش عندما قامت بتدمير مواقع، وتشويه منحوتات أثرية لحضارات قديمة عاشت على أراضى سوريا والعراق منذ آلاف السنين.
ولا شك أن النظرة التاريخية التى ينطوى عليها كتاب «نقد ثقافة التخلف»، إنما هى نظرة تصل الحاضر بالماضى وتردُّ الماضى على حاضره، فترى فى بعض شخصيات الحاضر نماذج عتيقة من شخصيات الماضى الغابر الذى لم تذهب معه لوازم تخلُّفه، بل ظلت هذه اللوازم باقية تصل ما بين الحاضر والماضى فى رابطة واحدة هى ثقافة التخلف الممتدة من أعماق الماضى إلى مراكز الحاضر الهشة التى سرعان ما تتقبل جراثيم التخلف، كى تعيد نشرها، ابتداء من دوائرها المخصوصة المحدودة، لكى تنطلق عابرة للأقطار ثم القارات، فى عصر عولمة الإرهاب الدينى على نحوما نراه الآن.
وأعتقدُ أن هذه النظرة التاريخية لا تصل الحاضر بالماضى وحده لكى تؤكِّد الأبعاد التاريخية لثقافة التخلف فحسب، وإنما لكى تؤكد صيرورة الآليات العقلية لنقدها ومُساءلتها مُساءلة عقلية نقدية أعنى التواصل العقلانى الذى يصل مقاومة الحاضر بمقاومة الماضى فيصل عقلانية محمد عبده فى نزعته الاعتزالية المحدثة بالاعتزال القديم الذى حاول إيقاف المد السلفى، وهذا هوما تفعله النزعة الرُّشدية المعاصرة (نسبة إلى ابن رشد) فى مقاومتها لنقائضها الإخوانية والسلفية المعاصرة. والأداة هى تفكيك بِنيتها المتولِّدة عن أصول تاريخية، وذلك بما يكشف عن بوار مَنطقها وفساد دعاواها التخييلية، ومن ثم نقض أبنية ثقافة التخلف المعاصرة، فى مجالاتها الأساسية، فى أصل بنيتها، وتجذرها، ومدى حاجتنا إلى استبدال نقيضها بها.
وظنى أن التجاوب التاريخى الذى يجعل من الحاضر - أحيانا، ومع بعض الاحتراس - صورة من صور الماضى والعكس صحيح، هوما يكشف عن بعض أوجه التكرار أوالتوازى بين الأزمنة، ولا فارق - من هذا المنظور- بين هجوم المؤسسات السلفية قديما على الفلاسفة وحرق كُتُبهم أوقتلهم أوتحريم السلفيين المعاصرين والإخوان على أتباعهم قراءة كُتب طه حسين أونجيب محفوظ أوفرج فودة، بل حتى اغتيال فرج فودة فعليّا مع أقران له على امتداد العالم العربى، منهم الجزائرى عبدالقادر علولة. والمحنة التى واجهها نجيب محفوظ فى عصرنا هى الوجه الآخر من المحنة التى واجهها ابن رشد فى عصره، خصوصا حين حاول أن يؤسس «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال».
والمؤكد أن العنف الذى هوجمت به «ألف ليلة وليلة» بواسطة ثقافة التخلف المعاصرة فى سياق تحيزها ضد المرأة حديثا وقديما فى آن، هوالوجه الذى لا يزال مُستمرا واصلا بين «ألف ليلة وليلة» فى حضورها القديم، وكل رواية تكتبها امرأة فى عصرنا الحاضر ضد شروط الضرورة التى تصل بين كل تجليات المرأة المعاصرة فى ثقافة تقدُّمها، ومن ثم فإن كل «شهر زاد» قديمة فى الزمن، ولكنها معاصرة فى آفاق تمردها على كل تجليات «شهريار» الحاضر أوالماضى على السواء. وبالقدر نفسه، فإن عقلانية محدثة سواء بمعناها النقدى الذى يتصل بنقد العقل الخالص أوالعقل العملى، إنما هى تكرار بشكل من الأشكال، ومع بعض الاحتراس، لكل فعل من أفعال المساءلة التى طرحها الاعتزال على عصره أوطرحها ابن رشد فى أندلس القرن السادس الهجرى على العقول العربية المعاصرة التى لا تزال تبحث عن أندلس جديدة، سبيلا للخلاص والتحرر من سطوة من يريد أن يقدِّم لنا تخييلات التخلف التى تحول بين عقولنا وأحلامنا لمُلاقاة المستقبل القادم بالنجمين الوضاءين: الحرية والعدل.
ولا يعنى ذلك كله سوى أننى أرى الحاضر العربى فى تاريخه، وأرى التاريخ العربى فى حاضره، محتفظا لكل منهما بتميُّزه النوعى وتحيُّزه الزمانى والمكانى، مُدرِكا الجدلية التى تردُّ آخرهما أوثانيهما على أولهما، والعكس صحيح بالقدر نفسه. فالحاضر يعيش فى الماضى، والماضى يعيش فى الحاضر بالقدر نفسه، ذلك ما ظل الصراع دائرا بين التقليد والابتكار، أوبين الاتباع والابتداع، أوبين عبادة الماضى والتطلع إلى المستقبل، ومن ثم الحلم دائما بعالم أجمل يمكن أن يخلِّصنا من شروط الضرورة كى يرسوبنا على شواطئ الحرية التى نحلم بها، والعدل الذى نهفوإليه، والتقدم الذى لم نكف عن الحلم به، مع الكرامة الإنسانية التى تؤهِّلنا مع لوازمها لكى نخلق مستقبلنا فى حاضرنا من منظور ثقافة التقدم لا ثقافة التخلف.
ولستُ فى حاجة إلى أن أُضيف – بعد ذلك كله- أن ثقافة التقدم تعنى عندى ثقافة الاستنارة والحداثة فى الوقت نفسه، فالاستنارة هى فتح أبواب العقل على مصراعيها؛ أعنى العقل الذى ميَّزنا به الله عن سائر خلقه، وجعله حُجة له علينا كما جعلنا قادرين به على إعمار الكون والتقدم إلى ما لا نهاية له فى اختراع ما ينصلح به الكون الكبير أوالمجرة العُظمى (Galaxy)، والكون الصغير الذى هوالإنسان كما قال على بن أبى طالب:
دواؤك فيك وما تُبصرُ وداؤك منك وما تَشعرُ
وتزعم أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ وَفيك انطَوَى العالمُ الأكبرُ
وقد سبق أن كتبتُ عن أن الحداثة كالتنوير صنوان لا ينفصلان يجمع بينهما معا معنى الابتداع ومعنى الحركة الأبدية صوب المستقبل الذى لا حد لإمكان تطوره وتقدمه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذا بعض ما أؤمن به وما حاولتُ صياغة أفكاره فى كتابى «نقد ثقافة التخلف».
لمزيد من مقالات د.جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.