مناسبتان تمران بنا هذه الأيام وتذكرنا كلتاهما بالشعر الذى لايجوز أن ننساه، وإلا فنحن ننسى أنفسنا. المناسبة الأولى «ربيع الشعراء» وهو عيد عالمى يحتفل فيه الناس بالشعر فى كل صوره وأشكاله. والأخرى عيد ميلاد أمير الشعراء العرب أحمد شوقى الخمسون بعد المائة الذى لم نلتفت له كما يجب فى ميعاده الصحيح وهو العام الماضى ، فشوقى ولد فى سنة 1868 كما نجد فيما بين أيدينا من معاجم ومراجع وليس بعدها. ويمكن أن نعود لهذه المسألة عندما نتحدث عن شوقي. وأنا فى حديثى هذا عن الشعر لا أتحدث عن صور أو نصوص أو أسماء، وإنما أتحدث عن أصل الشعر وجوهره وعما يمثله لنا نحن البشر فى كل مكان. أتحدث عن اللغة الأولى أو اللغة الجامعة التى نعرف بها أنفسنا، ونتصل بالآخرين، ونكتشف العالم ونسميه ونستحضره. لغة الحلم واليقظة، والفطرة والعقل، والسر والعلن. أتحدث عن الشعر من حيث هو تعبير عن الحياة والوعى بالحياة، فهل يجوز أن ننساه؟ نعم! نحن ننساه فى الظاهر أو فى الواقع اليومى المزدحم بالمطالب والشواغل المتزاحمة. ولكننا لانستطيع أن ننساه على الدوام. بل نحن نعود إليه حين نعود لأنفسنا نراجعها ونتأمل وجودنا. وقد نعود إليه حين ننسى أنفسنا ككائنات مفردة ونقذف بها فى تيار الحياة المتدفق. عندئذ نغنى مواويلنا، أو نتذكر أحباءنا، أو نستغرق فى الأحلام. هذه الخواطر ربما راودت الذين دعوا العالم للاحتفال بالشعر فى يوم يكون عيدا له كل عام. هؤلاء لم يبتدعوا جديدا. وإنما أحيوا تقاليد عرفتها شعوب العالم من أزمنة سحيقة بصور مختلفة. فهى مواسم حصاد، وأسواق، وأعياد دينية لدى المصريين، والبابليين. والعرب، واليونانيين، والرومان. ومن التقاليد اليونانية بالذات استقى المثقفون الفرنسيون الذين بادروا بالدعوة للاحتفال بالشعر صورة عيده، وفى مقدمة هؤلاء جاك لانج وزير الثقافة فى حكومة الرئيس ميتران فى أواخر القرن الماضى ورئيس معهد العالم العربى الآن. سموه «ربيع الشعراء» لأن الشعر هو ربيع الحياة الدائم. وكان اليونانيون يحتفلون بالشعر فى فصل الربيع الذى يبدأ فى شهر مارس من كل عام ضمن احتفالاتهم بالإله ديونيزوس إِِِِله الطبيعة البكر والخصب. والكرمة والنبيذ، والنشوة، والغناء، والرقص، والمسرح والتمثيل والأقنعة التى ترمز لتحولات الشخصية. وكان ديونيزوس قد عرف هذه التحولات وهو طفل فصار ظبيا، ثم أصبح عجلا ثم عاد إلى صورته الأولى من جديد. وفى الديونيزيا، أى فى أعياد ديونيزوس، كان اليونانيون يحتفلون بهذا كله فينشدون الأشعار، ويغنون، ويرقصون ويشربون، ويتنكرون خلف الأقنعة، ويمثلون، ويطلقون لأنفسهم العنان. وكما كانت الديونيزيا عيدا جامعا كان ربيع الشعراء كما تصوره الذين دعوا له فى أواخر القرن الماضى عيدا جامعا. فهو ليس شعرا فقط، وإنما هو شعر وموسيقى وغناء ورقص وتمثيل تقدم كلها جنبا إلى جنب فى برامج حافلة. أمسيات شعرية، وعروض مسرحية، وحفلات موسيقية، فضلا عن الدروس التى تلقى بهذه المناسبة على التلاميذ فى المدارس، والإعلانات التى توزع فى الشوارع وفى المقاهى ومحطات المترو تستثير عامة الناس وتشعرهم بأنهم حقا فى عيد يحتفلون فيه بالشعر وبموضوع بالذات يقترح كل عام ليستلهمه المشاركون فى هذه الاحتفالات التى بدأت منذ عشرين عاما. فى عام 2006 كان الموضوع الذى استلهمه المشاركون هو «المدينة»، وفى العام الذى تلاه كان الموضوع هو «الحب»، وبعده «مديح الآخر»، وبعده «الضحك». وهى كما نلاحظ موضوعات يتحاور فيها الماضى والحاضر، والنسبى والمطلق، ويقصد بها دفع الشعر فى قلب الحياة اليومية كما يعيشها الناس فى مدن هذا العصر. أما الموضوع الذى اقترح أن تدور حوله قصائد هذا العام فهو «الجمال». وقد أتيح لى أن أتابع جانبا مما كان يقدم فى ربيع الشعراء الفرنسى منذ بداياته خلال وجودى فى باريس. وربما أشرت الى ذلك فى مقالات سابقة دعوت فيها للاحتفال بربيع الشعراء فى مصر. فالشعر بالمعنى الذى ذكرته فى بداية هذه المقالة هو فن البشر جميعا. والربيع عيد من أعيادهم الكبرى ينتظرونه ويعيشونه ويحتفلون به. والذى كان يصنعه اليونانيون فى الديونيزيا كان يصنعه المصريون فى احتفالاتهم بعودة أوزوريس للحياة فى العيد الذى أصبح يسمى عندنا «شم النسيم». ولا غرابة فى هذا. فالأسطورة اليونانية تقول إن المصريين واليونانيين أبناء عمومة. داناوس وإيجبتوس ملكان شقيقان نشآ فى إفريقيا ورحل الأول مع أبنائه الى بلاد أرجو فى اليونان، واستقر إيجبتوس هو وأبناؤه فى مصر. والصلة الوثيقة التى تربط المصريين باليونانيين ليست كلام الأساطير وحدها ،وإنما هى أيضا كلام علماء الأجناس الذين يرى بعضهم أن أقوى العناصر التى تكون منها شعب مصر كان عنصرا شماليا. والمؤرخ اليونانى القديم هيرودوت يذكر أسماء يونانيين يقول إنهم من أصول مصرية. كما يقول إن الإله المصرى آمون هو الإله اليونانى زيوس، وأن أوزوريس هو ديونيزوس. والذى نقوله عن العلاقات الوثيقة، التى ربطت بين مصر القديمة واليونان القديمة نستطيع أن نقول ما يشبهه عن العلاقات الوثيقة التى تربط مصر الحديثة بفرنسا وخاصة فى الثقافة. لكننا لا نحتاج لرابطة مع أى بلد آخر لنبرر احتفالنا بربيع الشعراء. فالشعر كما ذكرت فن العالم كله، والربيع ربيع العالم كله. وإنما تحدثت عما يربطنا بغيرنا من الأمم والثقافات لأؤكد أن ربيع الشعراء هو عيد الجميع، مع استدراك أو اعتراف لابد منه وهو أن هذا العيد الذى ربما بدأ فى مصر لا يكاد يجد لنفسه مكانا فى مصر الآن، لأن الاحتفال بالشعر وبأوزوريس وبالروابط التى تشدنا إلى غيرنا من الأمم لا يكون إلا فى يقظة ثقافية يبدو أننا لا نتمتع بها فى هذه الأيام! وفى المقالة القادمة نتحدث عن أمير الشعراء فى عيد ميلاده الخميسن بعد المائة. لمزيد من مقالات بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى