ونحن نحتفل مع العالم بيوم الشعر الذى يوافق أول أيام الربيع لا أجد كلمة أبدأ بها أجمل أو أصدق من الكلمة التى قالها أمير الشعراء يوم تكريمه فى ربيع العام السابع والعشرين من القرن الماضى، وجمع فيها بين ثلاثة أقانيم لم تجتمع فى حياتنا، كما اجتمعت فى هذه الأيام: الربيع، والشعر، والثورة.يقول شوقى فى قصيدته التى بدأها مرحبا بالربيع، يقول عن الشعر:نغم فى السماء والأرض شَتَّى من معانى الربيع أو ألحانه ملك ظله على ربوة الخلد وكرسيه على خلجانه أمر الله بالحقيقة والحكمة فالتفتا على صولجانه لم تثر أمة إلى الحق إلا بهدى الشعر أو خطا شيطانه! فالشعر معنى من معانى الربيع لأن الربيع حياة وحب وجمال وازدهار. والثورة معنى من معانى الشعر، لأن الشعر حرية وانطلاق وتجل وتمرد، ومن هنا إشارة شوقى للشيطان الذى نعرف من الأسطورة العربية أنه هو الذى يحمل الوحى للشعراء، كما نعرف رفضه السجود لآدم الذى جعله رمزا للتمرد، كما صوره العقاد فى قصيدته البديعة «ترجمة شيطان». وكما أن الشعر حرية وانطلاق، فالشعر انبعاث وتفتح، وهو لهذا معنى من معانى الربيع الذى تعود به الحياة للطبيعة التى تضمحل فى الشتاء وتموت، ومن هنا ارتبطت عودة الربيع فى الحضارات القديمة بعودة الروح أو بالميلاد الجديد، خروج «بتاح» من البيضة فى مصر القديمة، وهو العيد الذى لانزال نحتفل به في شم النسيم، وعودة تموز للحياة عند البابليين، وعيد القيامة فى المسيحية، وانبعاث ديونيزوس عند اليونانيين الذين جعلوه عيدا للحب والخمر والشعر والمسرح يقام فى التاسع من مارس، ويستمر خمسة أيام. وقد نظرت منظمة اليونسكو لهذا العيد اليونانى القديم حين فكرت فى دعوة العالم للاحتفال بالشعر، وإن اختارت له الحادى والعشرين من مارس ليوافق اليوم الأول فى الربيع. والربيع إذن شعر وثورة. وقد استحقت الثورات العربية التى اشتعلت فى الربيع أو قريبا منه أن تسمى ربيعا عربيا، وبهذا يكون الربيع العربى ثقافة جديدة وحياة جديدة. ولا أظن أن إيرينا بوكوفا الأمين العام لمنظمة اليونسكو ابتعدت فى الكلمة التى أذاعتها يوم السبت الماضى بهذه المناسبة، عما قاله أمير الشعراء فى كلمته، فهى تقول إن اليونسكو، وهى تحتفل بالشعر وتدعو العالم كله للاحتفال به تحتفل بالفن الذى يرمز للطاقة الإبداعية، فى روح الإنسان، وتحيىّ الشعراء من الرجال والنساء الذين يحلمون بعالم أفضل يبنونه بالكلمة الحرة والخيال الخلاق. غير أن الشعر الآن لا يعتبر حاجة حيوية بالنسبة للكثيرين الذين يرونه متعة فوق الحاجة يمكنهم الاستغناء عنها، لابد إذن أن نسأل أنفسنا: ما هو الشعر؟. وهل نستطيع حقا أن نستغنى عنه دون خسارة نتكبدها؟ والإجابة ليست سهلة، وليست دائما حاضرة لأن الشعر فن تتعدد عناصره وأشكاله التى تختلف النظرة إليها من مدرسة لأخرى، ومن عصر لعصر، ومن جيل لجيل. لكننا نستطيع بداية أن نتفق على أن الشعر لغة، واللغة ملكية مشتركة لكل الذين يتكلمونها، والذين تكلموها فى العصور الماضية، والذين سيتكلمونها فى العصور المقبلة، ولأن الشعر لغة فهو ملكية مشتركة لنا جميعا. والشعر بعد ذلك تعبير باللغة عن التجارب الإنسانية، وهو بهذا أيضا ملكية مشتركة نصيب القارئ أو السامع المتلقى فيه لا يقل عن نصيب الشاعر. لكن علينا مع هذا أن نتفق على أن الشعر، وإن كان لغة فهو لغة خاصة. إنه لغة إبداع، وليس لغة اتصال أو هو لغة اتصال يتحقق عن طريق الإبداع، وهو إذن لغة أخرى، أو فلنقل إنه لهجة خاصة يجب أن نتعلمها حتى نتواصل من خلالها، وهذا جهد لا يحب الكثيرون أن يقوموا به ظانين، كما أشرت من قبل أن الشعر ليس حاجة حيوية تستحق بذل الجهد، وهو ظن سىء وخطأ لا يقع فيه الجمهور البسيط وحده، بل يقع فيه بعض الشعراء الذين يزهدون فى التواصل مع الاخرين ويحولون قصائدهم إلى لعب باللغة، وإلى هذيان بالمجان. من هنا أزمة الشعر فى عصرنا، هذه الأزمة التى تؤثر سلبا على علاقتنا بكل ما يتصل بالشعر، باللغة التى تتراجع، وتفتقر وتتحول يوما بعد يوم إلى مجرد إشارات، إن استطاعت تسمية القريب المبتذل، فهى تقف عاجزة أمام البعيد الذى يتجاوز ذلك، كما أن علاقتنا المأزومة بالشعر تؤثر سلبا على علاقتنا بالثقافة عامة وبأنفسنا، لأن الشعر لا ينفصل عن الثقافة، ولأننا نكشف به عن أعماقنا ونعترف بما لا نستطيع أن نعترف به. بأية وسيلة أخرى. فى الشعر نجمع بين الصورة والصوت، بين المرئى والمنطوق، المكانى والزمانى، على عكس ما يتاح لنا من خلال وسائل الاتصال الحديثة التى وضعتنا فى المكان السلبى، فنحن معها نتلقى ولا نرسل، ننفعل ولا نفعل، نشاهد ولا نقرأ ولا نتكلم، وهذا هو الطغيان الذى ينقذنا منه الشعر، فالشعر كما قلنا من قبل حرية وانطلاق وتجل وتمرد، ولهذا نحتفل به اليوم ونطلب منه العون. نحن نطلب العون من الشعر، والشعر أيضا يطلب عوننا لأن الذين يعادون الثورة يعادون الشعر، ويعادون العقل، ويعادون اللغة، ونحن نرى أن الفاشيين القادمين إلينا من عصور الظلام والعبودية يفخخون السيارات، ويخطفون الرجال والنساء ويذبحونهم، ويحرقون الكتب، ويهدمون المتاحف، ويدمرون الصور والتماثيل، ويغتالون السياح الأجانب، ونحن إذن ندافع عن الشعر بالديمقراطية، وندافع عن الثورة بالشعر، ندافع عن ربيعنا العربى بالكلمة الحرة، والخيال الخلاق، وبالدم إذا لزم الأمر، ليس فقط فى مواجهة الإرهابيين الخارجين على سلطات الدولة، بل أيضا فى مواجهة السلطات فى الدول التى لاتزال تعصف بالحريات، وتنتهك الحرمات، وتعاقب من يعارضها من الكتاب والشعراء بالسجن والجلد والإعدام. وقد قرأنا عن اجتماع عقده أو سيعقده عدد من شعراء العالم فى مقر منظمة العفو الدولية بلندن إعلانا لتضامنهم مع الشاعر القطرى محمد بن الذيب العجمى، الذى حكم عليه بالسجن المؤبد لأنه كتب قصيدة يحتفل فيها بالربيع العربى، ويندد بالنظم المستبدة، ألم يكن من واجبنا نحن الشعراء العرب أن نبادر بعقد هذا الاجتماع أو نشارك فيه على الأقل، خاصة والشاعر القطرى ليس وحده الضحية، وإنما هناك ضحايا آخرون فى مختلف الأقطار العربية، منهم الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت التى قدمت للمحاكمة متهمة بازدراء الأديان، لأنها انتقدت الطريقة الوحشية التى تذبح بها الأضاحى فى شوارع القاهرة، هل ترون فرقا كبيرا بين ما نفعله نحن فى شوارعنا وما تفعله داعش؟!. نحن إذن لم نصل بعد إلى ربيعنا المشتهى، لكننا سنظل نحلم به، ونغنى له ونضحى فى سبيله حتى تتفتح لنا براعمه وتشرق ألوانه. لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي