الشَّاذُّ، في اللغة، هو ما خالف القاعدة أو القياس. وفي الفيزياء هو ما ابتعد عن القيمة المتوسّطة بدرجة كبيرة. والشاذ من النَّاس، هو غير الطَّبيعيّ , أو غير السَّويّ. ويوصف شاذّ الأخلاق بأنه منحرف، ويُقال شذَّ عن الأصول أي خالفها، ودائمًا ما يكون السلوك الشاذّ معيبًا. وعليه، يكون الوصف الأنسب لمن يخالفون الإجماع الوطني ويعملون لحساب أعداء الخارج أو يستقوون بهم، هو أنهم شواذ وطنيًا. المصطلحات هي مبادئ العلم وأصوله. وقيل أيضًا إن فهم المصطلحات هو نصف العلم، لأن المصطلح يعبر عن مفهوم، والمعرفة مجموعة من المفاهيم التي يرتبط بعضها ببعض في شكل منظومة. وبالتالي، يكون من يُنتج المصطلح هو بالضرورة من ينتج المعرفة والعكس. ويمكنك أن تقيس التطور والرقي المعرفي بدرجة دقة المصطلح واتفاقه مع المضمون الذي يختزله ويدل عليه: كلما اتسع الفارق بين المصطلح والمضمون الدال عليه، تدنّي المستوي المعرفي أو زادت درجة الجهل والتخلف. وتكون المصيبة سوداء، لو كان من ينتج المصطلح فاقدًا للمعرفة، وأكثر سوادًا، أو حالكة السواد، لو حاول توظيف الاثنين، المعرفة والمصطلح، لتبرير جريمة أو لتجميل سلوك إجرامي. كان «جانوس»، إله الحرب عند الرومان، ذا وجهين، أحدهما ينظر إلي حدود الدولة متحديًا العدو الخارجي والآخر ينظر إلي الداخل متحديًا العدو الداخلي. وبهذا الشكل، ساوت روما القديمة بين أعداء الخارج وأعداء الداخل، ووصمت كليهما بالخيانة. كما كان الإعدام هو عقاب الخيانة مع تجريد مرتكبها من أمواله ومصادرتها ووصم أفراد أسرته بالعار. وعاقب الرومان الخائن، في البداية، بحرمانه من الماء والنار، ثم أصبح العقاب هو حرقه بالنار أو رميه بين الحيوانات المفترسة مع مصادرة أمواله، وإذا مات أثناء محاكمته، لا تتوقف الدعوي وإنما تتم محاكمة ذكري جريمته. وابتكر الرومان محكمة خاصة لمحاكمة العدو الخارجي، علي قائمة من الجرائم كالتآمر علي سلامة الدولة وإثارة العدو ضد الوطن وإهانة الشعب. الحد الفاصل بين الجرائم الموجّهة إلي سلامة الدولة الخارجية وبين الجرائم التي تستهدف سلامة الدولة الداخلية، أو بين الجرائم الموجهة ضد الأمة وتلك الموجهة ضد الحكومة، وضعته القوانين الفرنسية، سنة 1789، التي وصفت الأولي بأنها تهدد الدولة نفسها مباشرة في وجودها وفي كيانها وفي بقائها، ورأت أن الثانية تمس أجهزة الدولة أي شكل حكومتها والمؤسسات التي أنشأتها للقيام بأعباء السلطة. وتم تقسيم الاعتداءات علي النظام العام إلي قسمين، الأول علي أمن الدولة الخارجي، والثاني علي أمن الدولة الداخلي، والفارق الأساسي بين هذا وذاك يمكن تلخيصه في أن الجرائم المضرة بأمن الدولة الخارجي تقع علي الدولة وتهدد وجودها وكيانها، كوحدة دولية، مثل حقها في السيادة. أمّا جرائم الإخلال بالأمن الداخلي فإنّها تتعلق بنظام الدولة السياسي الداخلي أو الاجتماعي أو محاولة قلب نظام الحكم. هذا التقسيم لا يزال معمولًا به، إلي الآن، في العديد من التشريعات. لكن، ربما علي سبيل التحايل، أو تبريرًا لعدة جرائم، ظهر مصطلح «الجريمة السياسية»، وأسيء استخدامه وتم توسيع نطاقه، بأن ظهرت تعريفات تزعم أن الجريمة تكون سياسية إذا كان الدافع إلي ارتكابها سياسيًا. وليس الأستاذ حمادة هلال هو من قال ذلك، بل تشريعات عديدة، وصفت الجريمة السياسية بأنها «كل جريمة تتّصل بمصلحة سياسية للدولة أو بحق سياسي من حقوق المواطنين وكذلك الجرائم العادية إذا كانت بدافع سياسي». وهو طبعًا كلام فارغ، لأن معناه أن المعيار هنا أساسه قصد المجرم أو نيته، وقياسًا علي ذلك يمكنك إدخال الكثير من الجرائم العادية (أو كلها) في نطاقها، كالقتل والسرقة، وغيرها وغيرها. غير أن التأكد من الدوافع، أو النيات أمر بالغ الصعوبة، فإنها أيضًا لا تصلح أن تكون ركنًا من أركان الجريمة وبالتالي فإنها لا تصلح معيارًا لتمييز الجرائم. وضعًا للنقاط المرتبكة علي الحروف الأكثر ارتباكًا، نشير إلي أن الجريمة السياسية هي «الجرائم الموجهة ضدّ نظام الدولة السياسي وضد سير أجهزتها وضد حقوق المواطنين»، حسب تعريف المؤتمر الدولي السادس لتوحيد القوانين الجنائية، المنعقد سنة 1935 في كوبنهاجن. غير أنه، وربما علي سبيل التحايل أيضًا، أو تجميلًا لسلوكيات إجرامية عديدة، أبرزها الإرهاب، ظهرت ما توصف ب«الجريمة السياسية النسبية» لوصف الجريمة العادية ذات الجانب السياسي أو المرتبطة بجريمة سياسية، بغض النظر عن صيغة الارتباط، مادية كانت أو معنوية أو حتي صورية. ومع الإرهاب، تم الاستناد إلي هذا التوصيف للتعمية علي جرائم، لا تقل خطورة، كالتخابر مع دولة أجنبية أو الاستقواء بالخارج، وغيرها من الجرائم التي تعد خيانة عُظمي. أخيرًا، وبعد ذوبان الحد الفاصل بين الجرائم الموجّهة إلي سلامة الدولة الخارجية وبين الجرائم التي تستهدف سلامة الدولة الداخلية. وبعد أن صار صعبًا علي وجهي «جانوس» التمييز بين العدو الخارجي والعدو المواطن. وبعد أن صارت الخيانة وجهة نظر، قابلة للأخذ والرد، رأينا شواذا وطنيًا أو سياسيًا، لو أردت مجاملتهم، لا يخجلون من الإعلان عن تعاونهم مع أعداء الخارج أو الاستقواء بهم، ضد دولتهم، بزعم أنهم يعارضون نظام الدولة السياسي. وهؤلاء، قطعًا، شواذ، لأنهم خالفوا القاعدة، والأصول والإجماع الوطني، وابتعدوا عن الاعتدال، أو القيمة المتوسّطة، بدرجة كبيرة، بغض النظر عن حقيقة أن كثيرين من هؤلاء تم تجنيدهم، أو وضعهم تحت السيطرة، باستغلال انحرافهم. لمزيد من مقالات ماجد حبته