لم تكن المرة الأولى ولن تكون الأخيرة.. فبعد أيام من الهجوم الإرهابى الذى حصد أرواح ما يقرب من 50 مصليا فى مسجدين بنيوزيلندا طيرت وكالات الإنباء خبر إطلاق شخص تركى الأصل، الرصاص على «ترامواى» فى مدينة أوتريخت الهولندية ورفع درجة الاستعداد فى ألمانيا والدول المجاورة خشية أن يكون الحدث إرهابيا. وبالتزامن مع ما يدور فى قاعة محكمة كرايستشيرش بجنوب نيوزيلندا وتصريحات رئيسة الوزراء ومن قبلها رئيسة الشرطة النيوزيلندية،التى أعلنت أنها مسلمة، والمهاجرين المسلمون وسيارات الشرطة التى تلاحق مرتكب جريمة هولندا، اندلعت موجة جديدة من حملات إشعال الكراهية وتأجيج العنصرية المتبادلة،ليبدو الأمر كأننا جميعا، شرقا وغربا، قررنا الاستسلام لدود أسود ينفث أبخرة سوداء، صنعتها سلوكيات وتصريحات غير مسئولة وصور نمطية متبادلة ولعب على أوتار المشاعر الدينية والقومية ونعرات عرقية وجهل بآليات إدارة الصراعات الثقافية يتم استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية، انتظارا لساعة صفر تُشعل الحروب الدينية وتقصى الآخر وتنفيه ثقافيا، تحت شعار صراع الحضارات والأديان والثقافات وما يعرف باليمين المتطرف أو الإسلاموفوبيا وربما الصين أو اليابان فوبيا. المؤسف أن اختزال القضية فى مجرد ظواهر وتجاهل المرض لن يعالج الداء أو يمنع تكرار أعراضه،إذ تظل المشكلة التى علينا أن نواجهها دون مواربة هى أن بعض من يتورطون فى هذه الأعمال أو يستغلونها تشبعوا بأفكار أكثر خطورة من قنابل بدائية أو أسلحة وخزانات محملة برصاص يحصد أرواح الجميع بغض النظر عن الديانة أو الجنسية أو العرق.. فتجاهلنا لحقيقة أن التعصب كان دائما المحرك لكل الجرائم والحروب القائمة والمستقبلية يُحولنا تلقائيا لترس فى هذه الآلة الجهنمية التى ستقضى فى النهاية على البشرية وتسحق كل منجزاتها. فالتعصب فى أبسط تعريفاته هو الثبات والتحجر على رأى أو فهم أو تأويل أو اعتقاد والدوران فى مدارات فكرية مغلقة لا تقبل المغايرة والمخالفة، الأمر الذى يؤدى لتبنى الفرد مواقف سلبية أو إيجابية مفرطة فى التعميم وتفتقر للأسانيد. وبمراجعة سريعة للتغطيات الإخبارية التى بثتها بعض القنوات عقب الحدث المأساوى فى نيوزيلندا يستطيع أى شخص أن يلاحظ الجهد الذى بذله معلق الخبر فى قناة «الجزيرة» ليستنطق ضيفيه على الهواء ما يؤكد تعرض المسلمين لاضطهاد وتمييز، نفاه كلاهما بصورة قطعية. وإذا كان الغضب وإدانة أى اعتداء أو تعليق عنصرى والكيل بمكيالين عند توصيف الأحداث الإرهابية حقا إنسانيا مشروعا فإنه يجب ألا يُلهينا عن حقيقة أن هذه الجرائم البشعة يدينها أصحاب الفطرة السليمة أيا ما كانت ملتهم والثقافات التى ينتمون لها، وأن مذبحة نيوزيلندا وغيرها من وقائع مؤسفة سبقتها وقد تعقبها، حلقة فى سلسلة إرهابية تستهدف الجميع، يتخفى وراءها قاتل محترف اسمه التعصب، سٍجل جرائمه حافل بالعنصرية فى الولاياتالمتحدة وجنوب إفريقيا وبالمذابح فى الهند والحروب القبلية فى نيجيريا والكونغو وتشاد وبمآسى التوتسى والهوتو فى بوروندى وصراع السنة والشيعة فى العراق وحملات التطهير العرقى والدينى فى البوسنة والاعتداء على المساجد والكنائس فى مصر و..و. فالتعصب كما وصفته الدراسات النفسية شعور يصاحبه الإحساس بالاستعلاء أو المظلومية يؤدى للازدراء والكراهية والتمييز ورفض الآخر ومحاولة إقصائه عبر سياقات نفسية تؤدى بدورها للعنف والتحيز والانتباه الانتقائى للمعلومات، مما يؤدى للقولبة ولتشوه الإدراك وتضخيم الفروق التى تدعم تقدير الذات وتحط من الآخر. ولأن القضية أكبر وأخطر من أى مبررات أو مزايدات لابد أن نتعامل مع أسباب المشكلة، أى التعصب والتطرف، فى سياقات تدرك أن العزلة فى عالم اليوم رفاهة لا نملكها وأننا فى ظل نسبية الحقيقة التى تصدرها للجميع وسائل الاتصال وقوانين المنفعة السياسية والاقتصادية، يتزايد الخوف وتوهم الخطر، وكلها مشكلات يجب أن نواجهها قبل أن تتعاظم هستيريا رفض الآخر وننزوى فى دوائر ضيقة متحصنين بوهم أمن لن يتحقق مادام بقى التطرف والتعصب. لمزيد من مقالات سناء صليحة