في ظل ما تشهده الدول العربية من تطورات سياسية وتجارب ديمقراطية غير مسبوقة في تاريخها, فرض صعود التيارات الاسلامية, وتوليها مقاليد السلطة في مصر وغيرها من دول الربيع العربي الكثير من التساؤلات حول سبل استعادة مجد الحضارة والنهضة الاسلامية, وعودة الأمة إلي مجدها وسابق عهدها؟! والحضارة الاسلامية هي ما قدمه الاسلام للمجتمع البشري من قيم ومباديء وقواعد رفعت من شأنه ومكنته من التقدم في الجانب المادي, ويسرت الحياة للإنسان, وتسمي حضارة البعث والاحياء, وهي ذات مقومات متميزة, ومعالم مستقلة تشمل جميع شعب الحياة الإنسانية, فلم يكن أساسها تمجيد العقل, كما عند الاغريق, ولا تمجيد السلطان والنفوذ كالرومان ولا الاعتداد بالقوة الروحية, كالهنود, وبعض الصينيين, ولا الاهتمام بالملذات الجسدية والسطوة السياسية كالفرس, وحضارة الاسلام تختلف اختلافا جذريا عن مبادئ الحضارة الغربية.. وغاية الحضارة الصحيحة تحقيق السعادة والطمأنينة والتوصل إلي ما هو خير ونافع, والبعد عن الشر والضر.. وأما الحضارة الحديثة, فلم تحقق تلك الغاية, وأدت للقلق والاضطراب وطحن الإنسان في حمي المادة الطاغية, ولقد توسعت الحضارة الإسلامية, وانتشرت عبر العالم حاملة, قيما فكرية وسياسية ودينية جديدة وازدهرت في مختلف مجالات العلوم والفنون, كالطب والفلك, والعمارة, وغيرها من ميادين الحياة.. وبقي أن نبحث عن أسباب تراجع تلك الحضارة, وكيفية النهوض بها واستعادة أمجادها. بداية الانكسار عاش التاريخ العربي من بداية القرن الخامس عشر الميلادي, وحتي الآن أسوأ فترات حياته, فقد تراجع العرب لحدودهم القديمة بعدما اكتسحوا العالم من شرقه إلي غربه, ودخل التاريخ العربي في كل ما يطلق عليه المؤرخون عصور الانحطاط... وتشكلت تيارات مختلفة يحمل معظمها حنينا إلي الماضي باعتباره بديلا للحاضر المتلاشي, وللتذكر بما عرفته الأمة من ازدهار في ماضيها, والثابت أن هجمات التتار والمغول المسلمين علي الشرق المسلم أيضا ارتبطت في الوعي التاريخي للشعوب الإسلامية ببداية التراجع في العصور الوسطي وصولا إلي ذروة انحسارها علي يد الهجمات الاستعمارية الأوروبية في العصر الحديث, وتمت المواجهة مع الغرب الذي هضم أفضل ما أنتجته تلك الحضارة واستوعبها, بينما تخلف الشرق الإسلامي الذي لم يعد له من حضارته الغابرة سوي الوهم بإمكانية الاقامة الدائمة في ماضيها, إضفاء القداسة علي كتب التراث وأنحصرت علاقته بالحضارة المعاصرة في نطاق استهلاكها فقط. وتحت تأثير تلك الصدمة الحضارية التي اكتنفت الامام الشيخ محمد عبده في القرن التاسع عشر كانت مقولته الخالدة رأيت في فرنسا اسلاما, ولم أر فيها مسلمين أسباب التراجع لعل التقدم الذي أحرزته علوم الشريعة والعلوم الطبيعية قد أتاح للخلف من أسرار الإسلام ومراميه ما لم يتح للاسلاف هذا ما أكده المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة متسائلا, فلماذا تقدم السلف وتخلف الخلف حتي أصبحنا مدفوعين إلي الخوض في الحديث عن ضرورة اليقظة الإسلامية التي تخرج الأمة من السبات... والصحوة التي تنقذها من السكرة والنهضة التي تغادر بها الركود والتقدم الذي يعتقها من التخلف والتجديد الذي يخرجها من الجمود.. والاجتهاد الذي يعصمها من التقليد... والارتقاء الذي يرفع عنها عار الانحطاط.. فلقد زادت المعرفة بالإسلام, وزادت كشوف المسلمين لثروات أوطانهم المادية وتجاوز تعدادهم المليار, ومع ذلك فقد تقدم غيرهم, وترجع أسباب ذلك لعوامل عدة يسردها الدكتور محمد عمارة في كتابه فجر اليقظة الإسلامية ويأتي في مقدمتها الاتجاه إلي عسكرة الدولة لمواجهة العديد من الانقسامات والصراعات والثورات المذهبية والفكرية والمكائد والتمردات والأزمات والمحن التي أضعفت الدولة المركزية, وظهرت حركات استقلال متعددة من الولايات مما أدي إلي زيادة عدة وعتاد المؤسسة العسكرية للدولة الإسلامية ثم جاء دور التحديات الخارجية, وكان طول عمرها سببا في تتابع دول العسكر علي حكم عالم الإسلام... وتتابعت هيمنة الدولة الزنكية والايوبية والمملوكية التي أسلمت الزمام للترك والعثمانيين.. وامتدت تأثيرات هذه العسكرة إلي المجتمع, فأحدثت أكثر العوامل السلبية التي فعلت التخلف والتراجع لحضارتنا العربية الإسلامية.. وقد سبق ذلك أن العنصر العربي كانت قد استوعبته عوامل الترف والرفاهية, فلم يعد مؤهلا ليكون القوة القادرة علي مواجهة التحديات الأمر الذي أعجز العرب عن حماية الدولة والحضارة التي بنوها بثورة الإسلام وعقلانية القرآن وخشونة الجند الفاتحين وصدق الله إذ يقول وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا مظاهر الجمود ومن مظاهر التراجع الحضاري التي رصدها المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة ما يتعلق بالانقلاب علي عقلانية الحضارة العربية الإسلامية فقد كان التيار العقلاني وتيار أصل العدل والتوحيد هم الصناع الحقيقيون لقمة العقلانية في حضارتنا فقد انطلقوا من القرآن الذي أعلي مقام العقل فصاغوا وللمرة الأولي في تاريخ الفكر الفلسفي علم الكلام الإسلامي واستطاعوا النهوض بمهمة مجادلة الفلاسفة من أبناء الملل الأخري.. وقد أدي الانقلاب الذي أحدثته عسكرة الدولة من الأتراك والمماليك الي اضطهاد أئمة التيار العقلاني وانتزاعهم من مواقع القيادة والتأثير الفكرية والسياسية مما أصاب إبداعنا الحضاري في الصميم بما عرف بإغلاق باب الاجتهاد والذي بدأ منه التراجع والجمود والتخلف والانكسار. وفيما يتعلق بالانحراف عن شريعة الأمة فلقد تزامن الضمور الذي أصاب طاقات الإبداع وملكات الاجتهاد عندما سادت فكرية التيار النصوصي.. مع انحراف دولة العسكر للمرة الأولي في المسيرة التاريخية الحضارية عن شريعة الأمة وفقه معاملاتها وقانونها الطبيعي. وفيما يتعلق بالظلم الاقتصادي والاجتماعي للرعية.. فبالرغم من تلك الصفحة الناصعة لأعظم الانتصارات علي الجبهة العسكرية في التاريخ الإسلامي لفرسان المماليك.. كان الثمن الذي دفعته الأمة في سبيله غاليا وفادحا حينما قامت دول العسكر في البلاد التي حموها أو حرروها من احتلال الغزو الصليبي باقتطاع أراضيها لجنودهم وقادتهم العسكريين وحولوا الفلاحين الي أقنان في نظام الإقطاع الحربي وفيما يتعلق بالعروبة الحضارية يري الدكتور عمارة أن اللغة العربية قد أصابتها من تأثيرات التراجع الحضاري في ظل دول العسكر من المماليك أمراض كثيرة فبعد الرقة والدقة والجزالة والاحاطة التي جعلت من العربية لغة الحضارة في مختلف ميادينها وعلومها وفنونها النظرية والعملية أصابتها الركاكة وغرقت في الشكل السطحي ولقد كانت محنة العربية في ظل الدولة العثمانية أشد منها في ظل دولة المماليك فأضافوا إلي الركاكة التي أصابت اللغة حربا أعلنوها عندما احتفظوا بلغتهم التركية فأصبحت لغة الدولة ودواوينها وتصاعد الأمر بمحاولة تتريك العرب طابع القصر وحول علاقة الفقهاء بالسلاطين فقد كان مثقفو الأمة في بداية الطور العربي للحضارة هم قراء القرآن الكريم وحفظته ومع نشأة العلوم والفنون عرفت الحياة الفكرية الفقهاء والمتكلمين والمحدثين والمفسرين والمؤرخين وعلماء الطبيعة وظواهرها والفلاسفة ومبدعي الفنون شعرا ونثرا وموسيقي وكانت الموسوعية هي طابع العصر.. وكانت استقلالية الفقهاء عن التبعية للدولة أمرا بارزا وملحوظا.. لكن عسكرة الدولة والمجتمع أصابت الإبداع الفكري وقللت من شأن العلم والعلماء والفكر والمفكرين.. وغدت الفروسية والمكر والدهاء وقهر الخصوم هي سبل الوصول إلي السلطة والدولة. وانقسم الفقهاء أبرز مثقفي الأمة إلي فريق ربطتهم التبعية الاقتصادية بالدولة فغضوا الطرف عن تجاوزاتها.. وآخر قادته هذه التبعية الي تبرير التجاوزات التي تقترفها الدولة ضد الرعية.. وألجأت المخاطر الخارجية المحدقة بعضا من الفقهاء المجتهدين إلي أن يغضوا الطرف عن انحرافات الأمراء والسلاطين إيمانا منهم بأن مجاهدة الدولة لن يفيد في ذلك الظرف سوي العدو الخارجي الذي يهدد الأمة والحضارة بالفناء.. وبذلك أصاب الضمور قسمات العقلانية والعروبة وعبقرية التشريع للدولة والمجتمع والعمران والعدل الاجتماعي وهي من أبرز السمات المكونة لهوية الأمة الحضارية وبضمور الإبداع في هذه الميادين ندرت نماذج المبدعين فيها من المجددين والمجتهدين. تبادل المواقع الحضارية ويخلص المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة إلي القول إن دول العسكر المماليك حققت للأمة نصرا مؤزرا ضد التتار والصليبيين لكنها علي الجبهة الحضارية أصابت الأمة بالتراجع والهزيمة والجمود وتزامنت هذه المفارقة مع نهضة الغرب الأولي بعد اكتشافه تراثه اليوناني فأضاف اليه إبداع الحضارة الإسلامية في المنهج التجريبي وإضافاتها في العلوم الطبيعية فبني عليها نهضته الحديثة العملاقة وكان أن انتصر المهزوم عسكريا في الميدان الحضاري.. وانهزم المنتصر عسكريا في هذا الميدان.. وشهد التاريخ كيف تم تبادل المواقع الحضارية من حيث النهضة والتراجع مع الغرب الأوروبي فقد كانت الدولة العربية الإسلامية سادة العلوم الطبيعية وتطبيقاتها.. وكانوا في الغرب يعيشون الجهل المظلم.. وعندما أهدي هارون الرشيد ساعة تضبط الوقت الي ملكهم شرلمان الذي أحضر قساوسة الامبراطورية وهم مفكرو الغرب يومئذ لرؤيتها أصابهم الرعب من حركتها وقالوا.. لابد أن يكون قد تقمصها شيطان فلما حدث وتبادلنا معهم المواقع.. رأينا شيوخ الأزهر وهم سلالة الذين ضعوا المجد العلمي لحضارتنا يذهذبون لزيارة مقر البعثة العلمية التي صحبت الحملة الفرنسية علي مصر فإذا رأوا تجربة كيميائية بسيطة في زجاجة اختبار أصابهم ما أصاب قساوسة الغرب عندما رأوا ساعة الرشيد في بلاط شرلمان.. والأزهر الذي كان يدرس طلابه علم الفلك ويشتغل علماؤه بصناعته عندما كانت الكنيسة تحاكم جاليليو تبادل مع الغرب المواقع فنهضت جامعاته ومعاهده وحققت الانتصارات الفلكية الباهرة وتخلفنا.. ويحكي الجبرتي ذلك الحوار الذي دار بين الوالي التركي علي مصر عام 1749 ميلادية أحمد باشا وشيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشبراوي حول مكان علم الفلك في المناهج التعليمية بالأزهر وهو حوار شاهد علي تبادلنا المواقع مع الغرب في الاهتمام بالعلوم التي تؤسس عليها النهضات الحضارية.