يمثل الهجوم على مسجدين بنيوزيلندا (15 مارس) علامة فارقة فى تاريخ العمل الإرهابى تكشف الكثير، ليس فقط من حيث بشاعة العملية وإنما أيضا من حيث الأيديولوجية التى تحركه التى دشنها منفذ الهجوم فى بيان مطول يعلن فيه فلسفة الإرهاب الأبيض غير المتوسط، حيث تجاوز نطاقه أوروبا وحدود البحر الأبيض المتوسط ليصل الى نيوزيلندا الواقعة بالجهة الجنوب غربيّة من المحيط الهادئ. ويأتى هذا الهجوم الذى نفذه الإرهابى اليمينى المتطرف برينتون تارانت فى سياق محفز للكراهية بالغرب، يقوم على أيديولوجية تكرست منذ سنوات، تعادى الآخر المختلف دينيا وثقافيا وعرقيا وبخاصة المسلمون، وتحمله مسئولية المشكلات المجتمعية التى تعانيها الدول الغربية. وعلى الرغم من تعدد الجرائم الإرهابية الموجهة ضد المسلمين بالغرب فإن هذه المذبحة تؤشر لنقاط ودلالات خطيرة، أبرزها: أولا: بث هذا الإرهابى (أسترالى الجنسية) لقطات الهجوم الذى نفذه على مسجد النور على فيسبوك، مستعينا بكاميرا مثبتة فوق رأسه، عندما كان يطلق النار على رجال ونساء وأطفال فى أثناء الصلاة، ما يعنى انه يوجه رسالة إرهاب للمسلمين الذين يعيشون خارج بلدانهم فى الغرب وبقية العالم وليس فقط داخل نيوزيلندا. ثانيا: جاءت الجريمة بوجهها العنصرى، لتعبر عن تيار الكراهية الذى يدعو إلى العنف والعداء غير المبرر تجاه أشخاص أو مجموعات لها سمات عرقية، أو دينية، أو ثقافية. فقد استدعى تارانت عددا من الطقوس بدت كما لو كانت نوعا من الاحتفاء بعملية القتل، فوفقا للفيديو المسجل له كان يستمع فى أثناء تنفيذه العملية إلى أغنيتين، إحداهما صربيا قوية ذات المدلولات العنصرية المرتبطة بالصراع البوسنى الصربى الذى راح ضحيته آلاف المسلمين، والأغنية الثانية كانت نار فير التى تشير إلى العنف. واكتسب هذا الخطاب المعادى للآخر زخما متزايدا بسبب ظهور عددٌ من الأحزاب اليمينية المتطرفة التى تعادى الهجرة والمسلمين، ومنها حزب نيوزيلندا أولا. ثالثا: إن الأمر لم يكن مجرد غضب او رد فعل فورى، وإنما مخطط له، فلم يكتف منفذ العملية بقتل وجرح العشرات فى أثناء تأدية صلاة الجمعة فى مسجد النور بشارع دينز بمدينة كرايست تشيرش، وإنما توجه بعد ذلك إلى مسجد آخر بشارع لينوود وأطلق النار على من فيه. رابعا: إنه يعبر عن توجه إرهابى أبيض يعلن عن نفسه بوجوه عديدة فقد كتب منفذ الهجوم الإرهابى بيانا من 74 صفحة نشره، على الإنترنت قبل تنفيذ العملية يتبنى أطروحة النقاء العنصرى، واصفا نفسه بأنه رجل أبيض عادى قرر أن يتخذ موقفا ليضمن مستقبلا لقومه. وأرجع فى بيانه أسباب ارتكابه المجزرة إلى التزايد الكبير لعدد المهاجرين، الذين اعتبرهم محتلين وغزاة. وأضاف: أرضنا لن تكون يوما للمهاجرين.. وهذا الوطن الذى كان للرجال البيض، سيظل كذلك. هذا التوجه لم يقتصر على الإرهابى فقط وإنما يشكل خلفية بعض السياسيين، فبعد العملية وجدنا سيناتورا استراليا يدعى (فرازر آننج) يبرر الهجوم ويرجعه الى قانون الهجرة النيوزيلندى الذى أتاح الفرصة للمسلمين ان يهاجروا اليها. خامسا: إن هذا الإرهاب الأبيض يستند الى مرجعية عتيقة من الكراهية ضد المسلمين تضمنتها دروس التاريخ فى المدارس الغربية ولم تتم مراجعتها بشكل محايد، فقد تبنى هذا الإرهابى خطابا يستعيد احداث التاريخ لتأكيد أن ما قام به بمنزلة ثأر للمجتمعات الغربية. حيث نشر صورا لبندقيته مصحوبة بعبارات، تضمنت هجوما على الدولة العثمانية، ومنها «Turcofagos» وتعنى آكل الأتراك. و1683 فيينا فى إشارة إلى تاريخ حصار فيينا الذى نفذه السلطان العثمانى سليمان القانونى و تاريخ 1571م، فى إشارة إلى «معركة ليبانتو» البحرية التى انتهت بانتصار الصليبيين. وللحقيقة أن هذه الكراهية للإسلام والمسلمين أسهم فيها ساسة الحاضر والمتكسبون من خلق عدو ليتم اعتماد ميزانيات ضخمة لبزنس الحرب وما تشمله من صناعة الأسلحة، فبعد سقوط العدو الشيوعى الذى كانت تستهدفه هذه الصناعة، تم اختراع العدو البديل وهو الإسلام حتى يستمر «بزنس الحرب»، ونتذكر كتبا ونظريات راجت بهذا المجال حول صدام الحضارات ناهيك عن دور أجهزت مخابرات قوى كبرى فى الدفع بشاب فى أتون حروب مقدسة بدءا من الجهاد الأفغانى لضرب العدو الروسى وحتى (داعش). لكل ذلك فنحن أمام إرهاب أبيض ضد المسلمين، لن تكون مذبحة نيوزيلندا نهايته، ما لم يحدث تحرك أممى لإصدار تشريع دولى قوى يجرم كل اشكال الكراهية والتعبئة والإرهاب ضد اتباع الأديان والثقافات والاعراق الأخرى. لمزيد من مقالات د. محمد يونس