نادرا ما يلتفت الذين يعشقون الظهور بمظهر الانشغال بما يرونه قضايا كبيرة وخطيرة إلى ما يظنون أنه مسائل عادية وعابرة، ولا تستحق الاهتمام من جانبهم، لأننا نرى ونسمع ونتابع الذين أضناهم أى مساس بالنصوص الدستورية، والذين يعتبرون أنفسهم الحفظة الأمناء على حقوق الإنسان، وفق مفاهيم المنظمات الدولية إياها، والذين لا يروعهم ولا يضنيهم استشهاد العشرات من أبناء مصر، مدنيين وعسكريين، وجرح مئات وتدمير المرافق والممتلكات بقدر ما روعهم وأضناهم تطبيق القانون، وفيه عقوبة الإعدام، بعد استنفاد درجات التقاضي، وصولًا إلى أعلى وأرفع مستوى وهو محكمة النقض، بينما لا نجد كلمة واحدة من هؤلاء وأولئك على نجاح مشروع مقاومة وباء فيروسات الكبد الوبائية، ونجاح مشروع القضاء على قوائم الانتظار بالمستشفيات، وانطلاق مشروعات لعلاج مشكلات الإبصار، والتقزم، ومقاومة الأمراض الطفيلية المتوطنة فى أجساد المصريين، خاصة صغار السن فى المدارس!، وهذا لعمرى كما يقولون فى الفصحى أمر عجيب، ومصدر العجب منه هو أن وطنًا يأكل الإسكارس والإكسيورس الدودة الدبوسية، والإنكلستوما، وغيرها، صحة أجياله الطالعة، ويفتك التقزم وسوء التغذية، وأمراض العيون، وفيروسات الكبد، والتلوث المؤدى للفشل الكلوى بصحة الغالبية منه، هو وطن لن ينصفه نص دستوري، ولا لوائح منظمات حقوقية دولية، ولا شنهفات المحزونين من تنفيذ حكم القانون على مجرمين، أدينوا بالقتل والتخريب والترويع العمدى مع سبق الإصرار والترصد! إن الذاكرة التاريخية الجماعية للمصريين إذا أزيح عنها غبار الأيام، فسوف تفصح من فورها وبفصاحة عن حال عاشها أجدادنا وآباؤنا أيام كان الحفاء يحوّل أقدامهم إلى جمادات متشققة فيظهر من يتبنى مشروع مقاومة الحفاء، وأيام كان متوسط الأعمار لا يتجاوز الأربعين أو الخامسة والأربعين ومن يفلت تحصده أوبئة الكوليرا والملاريا ومن قبلهما الطاعون.. وأيام كانت البلهارسيا والجرب والقراع أمراضًا متوطنة تصيب الملايين وتقتل الألوف وتشوه مئات الألوف!، وبالمناسبة فقد شهد البرلمان المصرى فى الثلاثينيات نائبًا من كبار ملاك الأرض، يقف خطيبا فى القاعة النيابية ومحتدًا ومنذرًا بأنها نهاية الكون، لأنه شاهد واحدًا من أبناء الفلاحين ذوى الجلاليب الزرقاء المصبوغة بالنيلة يرتدى جوربًا ذا أستك! وفيما كانت الغالبية تُعانى ما سبق وأكثر منه على صعيد صحة وحياة الإنسان، كانت معاناة أخرى اجتماعية من السادة كبار الملاك الزراعيين والأثرياء من أصحاب العمارات والأموال، الذين حمد لهم الناس انشغالهم بإنجاز دستور 1923 ومن قبله بقضية تشكيل وفد للتفاوض على الاستقلال، ولكن لا دستور 1923، ولا وفد التفاوض، ولا المناقشات مع الخواجات ممثلى الاحتلال البريطاني، منعت الانفجارات الاجتماعية وثورات الفلاحين والغلابة، التى لم تنجح فى التغيير، إلا عندما استطاع بعض أبنائهم من الوصول إلى الكلية الحربية، ومنها إلى الجيش، فكان ما كان فى يوليو 1952 الذى هو وببساطة تمكن الفلاحين والغلابة من أن يكون لحراكهم وتحركاتهم وانتفاضاتهم درع حامية! إن الدرس التاريخى يقول، إن السوس الذى ينخر ويحطم جسد أى أمة هو التركيز والانشغال والاشتغال فقط بما يشغل ما يسمى النخب السياسية والاقتصادية والثقافية، وإهمال ما يفتك بالجموع البشرية الواسعة من فقر ومرض وجهل، وللتوضيح فقط فإن الجمع بين المهمتين هو الأجدر بالتحقق، شرط أن تكون مهمة حل مشكلات الجموع أو غالبية الناس هى الأولى والأهم!.. وفى السياق نفسه فإن مصر تشهد الآن إلى جانب مقاومة الفيروسات الكبدية والأمراض المتوطنة، ورعاية صحة الأجيال الطالعة- كما أسلفت- جانبًا آخر لا يقل أهمية، وهو التصدى للعشوائيات حول المدن وفيها، والتصدى لإنقاذ وتطوير القرى الأكثر فقرا، وتم إنجاز عشرات المشاريع لإنشاء أحياء ومدن جديدة، تستوعب من كانوا سكانًا فى العشوائيات. إننى لن أتطرق لما يطلق عليه المشروعات الكبرى فى شبكات الطرق والمدن الجديدة ومنطقة قناة السويس وغيرها، وهى تخدم الوطن كله، بما فى ذلك فقراؤه بتوفير فرص عمل لأبنائهم، ولكننى فى هذه السطور أدعو كل ذى عين مبصرة وذى بصيرة نيرة إلى رؤية ذلك الجانب المهم فى مسيرة وطننا، وهو الاهتمام الفعلى المستمر للقضاء على ما يتركز تأثيره السلبى فى قطاعات شعبية عريضة طالما عانت الإهمال. إننا يمكن أن نصوغ ونطبق دستورا عشرة على عشرة، ونحقق متطلبات حقوق إنسان كما يقول كتاب تلك المنظمات، ونطلق العنان للرأسماليين وعبدة الربح بلا حدود، ولكن هذا كله وحده لن يصنع وطنا تستمتع جموعه الواسعة بالكرامة الإنسانية والصحة الوافرة والرزق اليسير، ويجد علمه الوطنى جنودا أصحاء لائقين بدنا وعقلًا ونفسا لخدمته والدفاع عن تراب الوطن. إن المفاضلة بين دستور وحقوق إنسان وحرية اقتصادية، وبين حماية الجموع العريضة من غوائل المرض والجهل والفقر، مفاضلة غير واردة وغير منطقية، إذا كان الوطن بلا مرض ولا جهل ولا فقر، ولا يذهب فيه طفل واحد إلى مدرسته بغير إفطار، شاحب الوجه من أثر الطفيليات فى بطنه، مرتجف البدن من خفة ملابسه فى أثناء الشتاء، أما إذا وُجد هذا الطفل فهو صاحب الأولوية المطلقة. لمزيد من مقالات أحمد الجمال