منذ فترة، تبدلت علاقتي بهذه الوسيلة العتيدة التي عرفتها مصر كثاني دولة في العالم تمتلكها، والتي عرفتها شخصيا بشكل يومي منذ نهايات العقد الاربعيني من القرن الماضي. كنت، وأسرتي، من سكان ضاحية عين شمس التي استمرت لفترة طويلة ترتبط بمركز القاهرة ميدان باب الحديد بقطار ينطلق ويعود من محطة كوبري الليمون المجاورة لمحطة مصر التي تنطلق منها قطارات الدلتا والصعيد. وكانت محطة كوبري الليمون هذه تزدحم في موسم الحج، لأن قطاراتها كانت تحمل الحجاج الي مدينة السويس، حيث تنتظرهم السفن المتجهة الي الجزيرة العربية وإلي البيت الحرام. كانت القطارات تنطلق من محطة كوبري الليمون لتتفرع في محطة عين شمس، تتجه بعضها الي مدينة السويس وتتجه الاخري إلي مدينة الخانكة او المرج. كنت يوميا وفي اثناء العام الدراسي اركب قطار الساعة السابعة وعشرين دقيقة من محطة عين شمس ليوصلني الي محطة سراي القية ومن هناك تنقلني وسيلة مواصلات ثانية، لم تعد موجودة الآن وكانت تسمي الترام الابيض الي ميدان العباسية، حيث كانت مدرستي الثانوية، مدرسة العباسية الثانوية للبنات. طوال السنوات الخمس التي هي فترة الدراسة الثانوية لم يحدث ان تخلف القطار عن موعده وبالتالي لم أتخلف انا شخصيا عن حضور طابور الصباح وتحية العلم. كنت وزميلاتي من سكان الضاحية والمتجهات الي مدارسهن علي طول خط القطار لا نحمل هموم التأخير او عدم الانتظام الوقتي. بالتعبير الدقيق الذي نستخدمه الآن، كانت هناك إدارة ملتزمة كما كان هناك مواطن ملتزم. واستمرت حالة السكك الحديدية علي انتظامها طوال الخمسينيات والستينيات وجانب من السبعينات. كنا نركب ديزل الاسكندرية في تمام الثامنة صباحا لنصل الي الاسكندرية في العاشرة تماما لنحضر ندوة او نشارك في حلقة نقاشية دون تأخير، لا في الذهاب ولا في العودة. ولم تكن التلميذات او الطالبات هن الوحيدات اللاتي يستخدمن هذه الوسيلة المنتظمة والنظيفة وإنما كانت متاحة لكل السكان في الضاحية، المدرسين والمحامين والاطباء وحتي مستشاري القضاء. وفي اثناء شق القطار طريقه كان يأتي الكمساري: «تذاكر وابونيه» ومع الوقت تسقط كلمة تذاكر وتستمر ابونيهات. واحيانا كان يدخل مفتش القطار ليطمئن علي سير العمل. ولكن مع منتصف السبعينيات بدأت الامور تتغير وبات التأخير لنصف ساعة قد يمتد لساعة. ولم يعد ديزل الاسكندرية هو التوربيني الاسباني الذي كنا نعرف انتظامه ونظافته. اما قطارات الصعيد فحدث ولا حرج. اتذكر اني عندما كنت عضوة في المجلس القومي للمرأة وطلب مني الذهاب الي محافظة سوهاج ، قبل ربطها بالقاهرة بخط طيران، ان استقللت عند عودتي قطار الحادية عشرة مساء من عاصمة المحافظة لأصل في الساعة السادسة صباح اليوم التالي الي القاهرة. ليلتها، ناهينا عن التأخير، جلست القرفصاء تماما كالكاتب المصري علي المقعد من بداية الرحلة الي نهايتها فيما عدا بعض الدقائق التي كنت اسير فيها في العربة ذهابا وايابا لإراحة ساقي. اكتشفت كما اكتشف الركاب ان عدد القوارض في العربة يفوق عدد الركاب. ولما سألت الكمساري عن العلاج قال: معلهش استحملي اصل مخازن القطارات كلها بها فئران، كلها كام ساعة ونوصل. ثم استمر التدهور، خطوة للوراء وبعدها خطوة اخري لما قبل الوراء، حتي وصلنا الي ما نحن فيه الآن. وامتنعت نهائيا عن استخدام القطار كوسيلة مواصلات بالرغم من انها المفروض انها الأسلم والارخص والافضل. وعندما كثرت حوادث القطارات بدأنا نتساءل عن السبب، قيل الكثير وتعددت الاسباب، منها تسيب الإدارة وتفشي الفساد، خاصة في التلاعب في بيع التذاكر في المواسم والاعياد بجانب تهالك الجرارات والتلاعب في شرائها ولكن يستمر عامل انعدام الصيانة الدورية التي تحافظ علي الوسيلة كوسيلة خدمية حيوية تخدم الفقراء ومتوسطي الحال. فالصيانة المعمول بها هي التي تسير الامور اليومية بحيث لا تتوقف الوسيلة عن العمل. وكان السبب الأصلي الذي قيل لنا هو عدم توافر التمويل. الدولة المصرية استمرت لعقود تتعامل مع هذه الوسيلة الحيوية بمنطق الجباية دون ان توفر لها تمويلا يساعدها علي التجديد والتطوير أو حتي الحفاظ علي نظافتها او علي ما كانت عليه في القديم يوم ان كان فيها عربة للطعام علي خط الصعيد، يتناول فيها الركاب وجبات الافطار او الغداء او العشاء دون ان تقلقهم القوارض. المؤسف في موضوع سكك حديد مصر انه يكشف عورات حكومية عشناها دون ان نعيها الي ان اوصلتنا هذه العورات الي ما نحن فيه في مجالات عدة وليس فقط في سكك حديد مصر. ورثنا نتاج كل السياسات الخاطئة التي اتبعتها الحكومات والتي تستمر تردد انها تدعم وسائل المواصلات لتصل الي المواطن بسعر اقل من سعرها الحقيقي. ولكنها لم تذكر انها ألغت بند الصيانة والتجديد والتطوير بما ادي الي النتائج التي نراها الآن. حكومات لم تراع القواعد الاقتصادية السليمة في التعامل مع الخدمات الحيوية التي يحتاجها مجتمع كالمجتمع المصري. من الصعب علينا كمواطنين الاستمرار في المقارنة بين ما كنا فيه وبين ما اصبحنا عليه. من الصعب مقارنة حالة الالتزام التي كان عليها كل من القطار والركاب في القديم وبين حالة التسيب العام التي اصبح عليها الاثنان معا. التزام الماضي، لم تصغه المصادفة وإنما صنعه تعليم جيد وثقافة عامة جادة ثم ادارة حاسمة تعلمنا من الثلاثة الالتزام والجدية. فالقطار يصل إلي في موعده والراكب يصل المحطة في موعده والمخطئ يحاسب والصيانة تدخل في الميزانيات والتطوير يراعي في التخطيط. في هذا المناخ العام الملتزم لم نكن نعرف سائق قطار واحدا يتناول المخدرات وهو يقود القطار او أن القوارض تختال وهي تسيطر علي عربات الركاب. لم نكن مجتمعا مثاليا خاليا من المتعاطين ولكن كنا مجتمعا يعرف التعليم الصحيح والثقافة الجادة اللذين يحصنان الانسان ويجعلانه أكثر التزاما. لمزيد من مقالات أمينة شفيق