تفشل كل محاولاته لاسترضاء الحرف الآبق من كل تمام لبيان، يغدو الواقع مُحَمَّلًا بأسباب تثبيط تحيل القلم إلى السكون، وتُحيلُ صاحبهُ إلى خانة حسدٍ، لذلك (العربجي) الأُمِّى الذى يجلس على زاوية عربته (الكارو)، يُطالع صورةً لممثلةٍ لا يعرفها تحتلُ مساحة على صفحة المجلة التى استحالت قرطاس طعمية، يَلمعُ وجه الممثلة بفعل زيت الطعمية، وتتآكل الأحرف حوله بفعل ماء الطرشى والجرجير اللذين يفرشان وجه الصفحة حول أقراص الطعمية، فيما يستقرُ رغيفان على حِجْرِ جلباب العربجى الذى يقضم لقيمات الطعمية ويطالع وجه الممثلة وعلى وجهه علامات عدم استثاغة غامضة المصدر، ربما وجه الممثلة أو قد تكون الطعمية!!، أُلْقِى عليه تحية الصباح، فيردُ وأَعْوَادُ الجرجير تُلَوِحُ لِى وللمارة مُتَدَليةً من فمه (صباحك ورد يا أستاذ، كنت لسه باتفرج على الصور فى القرطاس، والله حتى صور جرانين اليومين دول مالهاش طعم)!، أُمازِحُه (علشان تبطل تشترى جرايد)، لكن العربجى القديم يُقَرِر أن يرُد قائلًا (جرايد مين يا عم دا أنا والحمار فطرانين بخمسة شِلنْ ومن غير ما أحبس كمان)!. فى محاولةٍ للتغلب على الحرف إذا تمرد، كان لابد من حمل المِداد إلى ناصية الوطن ليقف، مثخنةٌ أحرفه بجراح معارك البقاء، تتحلق رغم الأوجاع حول أحرفٍ ثلاثة، وحدها مسموح لها أن تتعاشق مبنى ومعني، وأن تستطع فى كل أفق، وأن تسرى مع كل نبض، وأن ترقَى مع كل فداء، وأن تبقى رغم كل عداء وعناد وغباء، وأن تقاوِم هجمات الفساد والإفساد والإنهاك والإرباك والإفشال، وحدها ثلاثة أحرفٍ إن أنبتتها إرادةٌ أصيلة، ورتبتها عقول واعية الخطط والوسيلة، وخطتها أفئدة ما لها فى هواها حيلة، تستحيل وحدها بدء الكلام ومنتهاه، إذ تختصر الحياة فى وطن، وتُلَخِص الوطن النموذج فى كلمة هى (مصر). كان عليَّ أن أستجيب لطلب العربجى المُبَطَنْ لأن يكون (الحبس على حسابي)، فى مواجهتنا مباشرة مقهى صغير سريعًا ما أحضر عامله كوب الشاى للعربجي، لكنه لم يكد يخطو خطوة واحدة مبتعدًا حتى دعاه الأخير معاتبًا بجزيل العبارات السوقية لأن السكر قليل، كلاهما فى نهايات الخمسينيات من العمر، بينهما عشرة طويلة تسمح بحوار سوقى البيان رغم كونه منقوعا فى محبة قديمة، تلخص الحوار الذى يتكرر فى وجود أى أفندى حول شح القهوجى وجشع العربجي، غير أنه سرعان ما استحال توافقًا على أنها أيام صعبة بات أرخص ما فيها البنى آدم. فى وطنى نَبَتتْ ملامح الدولة حين لم تكن دول، وتجلى الله فى النفوس يقينًا قبل أن يكون دينا، وأينع الجمال فى النفوس فنونًا حملت أجدادنا للخلود، فى وطنى مصر عاش المواطن القديم صاحب سيادة على أرضه رعية ورُعاة، إدارةً تُدركُ قيمة المواطن، ومواطنٌ يدرك إيمان الإدارة بقيمة الوطن، وعبر هكذا وعى جمعى كانت حضارة مُلْغِزةً إلى يومنا هذا، ومن خلال هكذا رؤية لا يمكن تصور أن استبدادًا أنتج هذه الحضارة، أو أن مواطنًا مقهورًا أسهم فى صناعتها، أو أن طاقاتٍ عُطِلَتْ عن التضافر لإنتاجها، أو أن محاباةٍ شابت عمليات إنتاجها، أو أن فسادًا طال إجراءات إدارتها، فى وطنى مصر القديمة إنسان لم يؤمن للحظة بأنه يحيا أيامًا أرخص ما فيها بنو آدم. ما بين القهوجى والعربجى مساحات ودٍ قديمة، كلاهما عبر عن ذلك ببيانٍ لا ينفصل عن سوقية فجة، لكنهما أكدا أن الودْ القديم (اتفرم تحت عجلات كتير) فَصَلَا فى وصف عجلات فرم الود القديم غير أن أقسى هذه العجلات كانت تلك التى فصلتهم عن الإحساس بالوطن، حين اختصرته فى إدارة أو شخص حتى غدت (مصر ناصر ثم السادات ثم مبارك)، وحين احتكرته لصالح (ناس كبرات .. اللى ثورى واللى إخوانى واللى مباركى واللى فلول)، وحين وزعت وعيه سلعًا استهلاكية فى برامج مسائية وصباحية بحسب رأى القهوجى (مش شبهنا)، وحين تركته لوسائل إعلام متربصة يقول العربجى (عليا اليمين أنا بأقعد أقلب فى التليفزيون ما ببقى عارف مين مع مين ولا ليه أو إزاي؟). على ناصية وطنى خَلقٌ كثيرون حائرون بفعل آلات تشتيت إعلامى موجهة، وموجوعون بفعل أزمات معيشية متراكمة، ومُتَنَبهون لتفاصيل مشهد الواقع بكل تحدياته وتناقضاته، ولكنهم ينتظرون تمخض مِداد الوعى ليلد كلمةً مصرية سوية، قادرة على أن تعيد الثقة فى وطن كامن فى نفوس أهله مهما تراكمت عليه الأوجاع والخبائث والظنون، كلمة مُتَجَرِدة من كل حساب إلا ما كان لوجه مصر خالصًا مخلصاً. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى