تعاند الأحرف مِدادي، تستحيل صغارًا تَفِرٌ من منزلها بغير سببٍ معلوم، رافضةً كلُ محاولات الإمساكِ بها، مُستعصية على أى استرضاء أو مُحايلة، ورغم ما يكتظ به منزل الواقعُ من مآوٍ للطرح، وغرفٍ للبحث، ورُدهات للتقصي، وشرفاتٍ للنظر، فإن كل مغريات منزل الواقع تفشل فى إقناع الأحرف بالخضوع. رغم أن تمردها على مِدادها يجعلها نهباً لصفع عواصف صقيع محدقة. حين تتمرد الأحرف على المِداد، تُعانى انخفاض درجات حرارتها، تفقد قدرتها على السريان فى بدن الأفكار، وتفقد مناعتها فى مواجهة فيروسات السلبية والكآبة والاعتزال، تمامًا كما تفقد خصوبتها المؤهلة للتناسل كلمات وجُمَل، فضلًا عن تخليها عن فعلها الذاتى كعلاجٍ لكل صاحب كلمة مِدادُها الإنسان فى أيامٍ غدا إنسانُها مجرد رقم (وأدَاوِى نفسى بالكلمة وأقول خَفِّيتْ - ألاقى كِلمِتى بِتِسْرى تِفُوتْ فى الحيطْ - تكون (كُونْسُولْتُو) من الحُكَمَا كما اتمنيتْ - يِشَخَصْ وَجَعِى ويِقُولِّى : يا واد جَنِّيت)!. فى براح الاعتراف على كرسى الحكيم، يُفَتِشُ الحرف فى واقِعِه الذى كان، طارحًا سؤال المصير عن «جدوى الاستمرار فى واقعٍ يدير ظهره لآهاتٍ أفكار تًطلقها الكلمات، ويعاند الأفكار إن طرحتها الكلمات، ويصاحب مُخَدِراتِ الوعي، ومُنَبِهات التفتيت، ومُنشِطَات الإرباك، ومثيرات الغفلةْ؟»، إنه واقع مُحْدِقٌ بكل مِداد مشحون بهم الإنسان والأوطان، واقعٌ يحيل الأحرف إلى عراء قُطب أفكارٍ مُتَجَمِد، وأنَّا لحيِّ أن يحيا فى هكذا ثليج قاس. يستدعى الحرف المُعتَرف بعض مشاهد واقعه القريب، حيث يُصرِّح أحد المعنيين بتلقى أفكار المِداد بإعجابه بما يُطرح، مؤكدًا (أكثر ما يُعجبنى فيه لغته العربية الفصحي)، رأيٌ يستدعى الزهو إذا ما تعدى شكل الطرح إلى لُبَه، غير أنه انتهى بسؤال عن أصل دراسة الكاتب لأنه متأكد أنه درس فى إحدى كليات اللغة العربية الرصينة، حتى طرح هذا التساؤل كان الحرف مستشعراً أنه يُشارِك فى «جوقة» استنفارا للوعى العام، وبمجرد انتهاء الحوار عند هذا التساؤل، استحال الحرف أميرة سابقة أجبرتها الظروف على أن تشارك فى عرض أزياء على شاطئ مفتوح!. فى استدعاء الحرف مشاهد واقع بارد، يرد الوسيط الإنتاجى فى مفاوضات الكتابة الدرامية على أحد المؤلفين قائلاً: «المعالجة الدرامية رائعة، وكوميديا فى منتهى الجمال، بس الشركة محتاجة حاجة light»، يندهش الكاتب مؤكدًا أن معالجته كوميدية أصلاً، ويوافقه الوسيط غير انه يضيف: «لكن عملك فيه فكرة»، هكذا إذن المطلوب كتابة خالية من الأفكار أو بمعنى أدق «تافهة»، ويضحك الوسيط مؤكداً: الله يرحمه مزازنجى قالها حكمة «إدينى فى الهايف وأنا أحبك يا نَاناس»! تتتابع مشاهد البرودة على واقع الذاكرة الآنية للحرف، يتردد فى جنبات الذكرى صوت الشاعر العراقى أحمد مطر «كى أحيا فداء الحرية - وأموت فداء الحرية - أعطونى بعض الحرية»، إن مدى الوعى البراح، كلما اتسع أفقه تلألأت فيه أحرفٌ قادرة على أن تنير لكل حارس، وتدل كل تائه، وتُنبِه كل غافل، وتُداوى كل ممسوس بظلام. إنه المدى المُحصِن للوعى الإنسانى كلما اتسع، والمشَوِّه له حينما يَضيق، وهو ما يجعله مُستهدفاً على الدوام من كل متربص بالإنسانية استبداداً أو استعباداً. يعتدل الحكيم المُطَبِب للحرف المعتدل ببرودة الواقع، وبضغطة زر على لوحة مفاتيح الكمبيوتر ينبعث صوت من وطننا القديم، عتيق بقدر ما تعتقت إنسانية المصرى القديم، الشيخ محمد رفعت يشدو «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ»، ثم يسود الصمت بينما يُتابع الحكيم معالجته للوحة المفاتيح ليعود صوت الشيخ رفعت من جديد «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ»، إنه صوت الحق الخالد، الذى يحيل برودة واقع كل حرف إلى أصل دوره، حيث البيان قَدَر المِداد، والإجلاء رسالته، والتنبيه مَهمَته، والتوعية سبيله، والتحصين من المهددات غايته، والإعمار أرضاً وإنسانًا فرضه العين. يعود الحرف الفار إلى حاضنته الأبجدية، متدثرًا بخبرات تجربة مواجهة الصقيع، قدر الحرف البيان، وقدر الكاتب مقاومة برودة الواقع، وقدر واقعنا أن تُحدق به عواصف الصقيع من الداخل والخارج، وهذه الأقدار مجتمعة تُلقى على صُنَّاع الوعى الوطنى الرسميين وغيرهم مهمة مواجهة عواصف الصقيع. التى تستهدف احتلال الوعى المصرى بالإرهاب والإرعاب، وهو ما يستوجب أن يتدثر صناع الوعى الوطنى بعقيدة وطنية خالصة، وأن يعالجوا أحرفهم بِمدادِ المحبة فى مواجهة الكُرْه، ويسطروها على صفحات النور فلا يطويها ظلام، ويعلنوها فى أبواق واعية تستعصى على كل تجهيل وتسطيح وتشويه وتفتيت وإرباك. إن المعالج لمفردات واقع وعى المرحلة يمكنه ببساطة أن يلمس حجم البرودة السارى فى أبجديتها، مقارنة بالارتفاع الحاد فى الأبجدية الوطنية إبان فعاليات موجة الثورة الثانية 30 يونيو وما تلاها، رغم أن مُهَدِدات البناء أشد قسوة وأكثر تنوعاً، الأمر الذى أدى إلى انخفاض حاد فى درجة حرارة أبجدية المرحلة، بما يُنذر بتحوله إلى نزلة شعبية فى الوعى لاقدر الله. لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى