رغم أنها مكالمة لا تستغرق دقيقة "عملتى إيه فى الامتحان.. بلاش رمرمة الشارع.. هتيجى امتى عشان أسخن لك.. ماتتأخريش"، إلا أنها مكالمة تريح قلبى وتجدد طاقتى للحياة. مكالمة تحمل حب دهر كامل، لا بل دهران لأنهما ابنتاى، من حققا لى حلم الأمومة ودفء الحضن وربطة الفيونكة، لكنى حرصت ألا أحبك الربطة، عشت حياتى أخشى أن تعيشا فى شقاء أو تعذبا وتعرفا الطريق للأشغال الشاقة مبكرا. كنت دائمة الخوف عليهما، حتى صرت قلوقة مزعجة متسلطة جافة المشاعر، أشم رائحتهما عن بعد وأنتعش، لكنى لا أقربهما لكى لا أبدو لينة، كنت دائما أرسم وجه الحزم ولا أصدر سوى الأوامر، كانت أقصى أحلامى أن يصلا إلى عمر الزهور، أصادقهما، نلبس سويا، نتبادل حقائب اليد والشتائم والأغانى، حاولت أن أواكبهما، تعلمت الفرانكوعربية، حفظت الأغانى الأجنبيه، كسرت الإشارات ونحن نستمع إلى مهرجانات، تخليت عن عنجهيتى النقدية واستمعت معهما إلى هشام الجخ، بل وقلت.. الله. ادعيت عشقى لموسيقى الراب، وغنيت مع الجوكر، وشاهدت أفلام تامر حسنى من وجهة نظرهما وتقبلته، لم أخطط يوما لأبعد من ذلك لا أدرى لماذا؟.. ربما انشغلت كثيرا بحفاظى على تلك المكانة!، أم أنى لم أصدق أن حلمى تحقق؟!.. لا أدرى سوى أن حلمى انتهى عند هذه المشاهد. علمت الآن بعد إصابتى بالمرض، لماذا لم أتخيل نفسى عجوزا؟ وأدربهما على جر ساقاى المقعدتين، أعلمهما خلع قناع الحياء عن جسدى العارى لاغتسالى، لم يخطر ببالى أنى لن أستطع فتح زجاجة الماء ذات يوم حتى ولو بسبب شيخوختى وليس مرضى، باغتنى المرض قبل الشيخوخة، قبل أن أضع مخططا جديدا لحلم آخر، أروض فيه بناتى على شقلبة حياتهما رأسا على عقب، ومحو كل ما حققناه باعتباره كان تسخينا لحياة صعبة فجاء اليوم مبكرا ليدفعوا ثمن أمومتى. انحدر بنا هرم الحياة ليصبحا أمهاتى، وعليهما أن يتعاملا مع طفلة عنيدة يائسة معاقة نفسيا، عليهما تحملى ومداواتى والترفيه عنى وسحب روحى كل ليلة لوضعها فى حجورهما الدافئة، التى مازالت هشة تحتاج إلى من يدق أعواد الغاب على جانبيها لكى تنتصب.. لم ينتصب عودهما بعد وبدلا من دفع عجلة أحلامهما، أثقلت أكتافهما حتى انحت الظهور وذبلت العيون، فهنيئا لهما جنة الأمهات التى سكنت تحت أقدامهما مبكرا. لمزيد من مقالات ناهد السيد