قال لى الأديب العالمى نجيب محفوظ: لقد أصبح العلم يسيطر على أدنى وحدة للمكان وهى النانو، وأدنى وحدة للزمان وهى الفمتو.. وسوف يتعدّى ذلك التطور حدود المختبرات إلى آفاق الحياة. كنتُ أعرض للأستاذ نجيب محفوظ الأفكار العامة لكتاب الدكتور أحمد زويل «عصر العلم» الذى تشرفتُ بتحريره. تذكرتُ ذلك بينما أتابع.. جوانب من سيرة عالم الفيزياء الشهير جوريس ألفيوروف الذى غادر عالمنا قبل قليل.. بعد أن دفع علوم النانو كثيرًا باتجاه المستقبل. ولد ألفيوروف فى بيلاروسيا عام 1930، وبعد سبعين عامًا حصل على جائزة نوبل فى الفيزياء. كانت أول إشارة لما سيكون لاحقًا علم النانو فى عام 1959.. ففى اجتماع الجمعية الفيزيائية الأمريكية، تحدَّث الفيزيائى الحائز على جائزة نوبل ريتشارد فاينمان عن تلك الأشياء متناهية الصغر.. وتساءل: لماذا لا يمكن أن نكتب مجلدّات الموسوعة البريطانية على شريحة صغيرة للغاية؟! منذ ذلك الحين تطوّرت على نحو مذهل علوم الأشياء الصغيرة للغاية علوم النانو.. ثم كانت الإضافات الكبرى للدكتور أحمد زويل فى التوصل إلى الوحدات الزمنية متناهية الصغر الفمتوثانية والتى تعادل واحدا على مليون على مليار من الثانية. وهو زمان يعادل تحديد ثانية واحدة فى فيلم سينمائى مدة عرضه «36» مليون سنة. أصبحت صحف عديدة تتحدث عن لطائف علميّة تتعلق بعصر النانو.. عن أظافر الإنسان التى تنمو بمعدل واحد نانومتر فى الثانية، وعن شعر الذقن الذى ينمو بمعدل واحد نانومتر فى المسافة من رفع الشخص ماكينة الحلاقة إلى حين وصولها إلى سطح الذقن! لقد كان عالم الفيزياء الروسى جوريس ألفيوروف واحدًا من الذين أسهموا باقتدار فى انطلاق علوم النانو، وكانت جهوده فى مجال أشباه الموصلات وراء تطور تكنولوجيا الاتصال والطاقة الشمسية. حسب مؤرخى العلم، فإنّ ويليام شوكلى مخترع الترانزستور هو أول من اقترح دمج مجموعة من أشباه الموصلات فى جهاز واحد لأول مرة عام 1947، وكان ألفيوروف وهربرت كرومر.. من حقّقا تقدمًا عظيمًا فى التعامل مع أشباه الموصلات غير المتجانسة. إن أشباه الموصلات هى أساس عمل الإلكترونيات الحديثة، وقد أدّى استخدام أشباه الموصلات التى تعمل بأشعة الليزر إلى نقلة كبري.. وقد جاء ألفيوروف ليكتشف طريقةً جعلت من عمل أشباه الموصلات بالليزر.. أكثر سرعة وأطول مدة. توقّع ألفيوروف الذى قادت أعماله إلى الصناعات المتطورة لبطاريات الطاقة الشمسية.. أن يستخدم العالم «70%» من الطاقة الشمسية بنهاية القرن الحادى والعشرين.. وأن تلعب تكنولوجيا النانو دورًا كبيرًا فى هذا المجال. أنتج عالم الفيزياء جوريس ألفيوروف أكثر من خمسمائة بحث علمي، وحصل على أول ميدالية تمنحها اليونسكو فى علوم النانو.. ورحل وسط احترام واسع من الأوساط الفيزيائية الروسيّة والأمريكية. الذين يمسكون بالهاتف المحمول اليوم هم مدينون لكثيرين.. أحدهم ألفيوروف.. الذى أسهمت أبحاثه فى تطوير وسائل الاتصال.. مما سمح بإجراء آلاف المكالمات الهاتفية فى ثانية واحدة.. من خلال إرسال نبضات خفيفة أسفل الخطوط. حين سئل ألفيوروف: هل أنت متفائل بمستقبل روسيا، قال: أنا متفائل.. لأن بلادى لم يبقَ فيها متشائمون. إنّ عقيدة الأمل فى فكر الفيزيائى الكبير هى ما جعلته يمضى فى طريقه رغم كل الإحباطات والانهيارات التى شهدها والتى شهدتها بلاده. كان العالم الكبير عضوًا فى الحزب الشيوعى ثم أدرك أن الحزب كان صرحًا من خيال.. وهوَي. كما كان عضوًا فى مجلس السوفيت الأعلي.. وبعد عامين فقط انهار الاتحاد السوفيتي، وغاصَ مجلس السوفيت الأعلى بكامل أعضائه تحت أنقاض الإمبراطورية.. لم يكن بالإمكان رؤية أحدهم وسط هذا الغبار الكثيف.. وأشلاء الدولة المبعثرة. كأنَّ ألفيوروف كان يحضّر تجربةً علميةً فى المختبر.. جورباتشوف زائد يلتسن مضافًا إليهما رونالد ريجان ومارجريت ثاتشر يساوى تحطيم الاتحاد السوفيتى ونهاية القوة العظمى الثانية.. ثم بداية النظام العالمى الجديد. لقد شهد البروفيسور ألفيوروف أيضًا عصر بوريس يلتسن، ورأى زملاءه من العلماء، وهم يغادرون إلى الغرب يبحثون عن فرصة فى مختبرات العدوّ. كما رأى من بقى من العلماء وقد أصبح سائقًا مؤقتًا أو عاملًا فى مقهي.. أو شاردًا فى الطرقات يمسك بقايا كأس وأطلال حياة.مضى عالم الفيزياء مع من صمد من النخبة العلمية السوفيتية.. مثل شعاع ليزر يحاول اختراق السياسة والاقتصاد لأجل تحطيم اللحظة وصناعة المستقبل.عاش جيل الانهيار من العلماء لحظاتٍ عصيبة.. لم يكن بالإمكان امتلاك جرأة الأمل. بدَا ألفيوروف وكأنّه يحمل جائزة نوبل فى يد، وكأس السمّ فى اليد الأخري.. لا معنى لما كان.. لأنه لا معنى لما سيكون. يا إلهي.. لقد تمكنت النخبة العلمية الروسية من البقاء.. لقد تمكنّت من الصعود من جديد.. عادت من بين الأنقاض، واستيقظت من قلب الرماد. نجح العلماء الروس فى ترميم التصدعات وردْم الشقوق. لولا العلماء لما نجح السياسيون فى إعادة البناء واستعادة المكانة من جديد. غادر ألفيوروف الحياة.. بينما الطبقة العلمية فى بلاده.. صنعت غواصاتٍ تمكث تحت الماء مئات الأيام دون انقطاع، وصواريخ مجنحة بلا مدى ولا مسار، وأسلحة ليزر لا نعرف خطورتها إلّا من مراكز الدراسات الغربية.. وثورة إلكترونية باتت موضع اتهامٍ بتجاوز العلم إلى السياسة. عاش عالم الفيزياء وبلاده هى الضحية.. ثمّ عاش وهى المتهم. أثناء انهيار الاتحاد السوفيتي.. رفض المسئولون فى مصر استقبال العلماء، بينما استقبلت شركات الترفيه الفرق الاستعراضية. لكن البعض كان يحاول رغم ذلك كله.. تأسيس معهد علوم الليزر فى جامعة القاهرة، وسطعت أسماء مثل لطفيّة النادى ومصطفى السيّد.. ثم سطعت أسماء علماء جدد مثل الراحلة منى بكر.. لكن وميض ذلك قد خبَا كثيرًا عما قبل. فى مصر طبقة علمية مرموقة، وباحثون رائعون فى علوم النانو ومجالات الليزر. يمكن لبلادنا الانطلاق فى ذلك الحقل الذى بات حاكمًا فى عالم اليوم. وإذا كان ألفيوروف قد شهد كل الانكسارات دون أن ينكسر.. يمكننا أيضًا أن نكون ذلك.. يمكننا أن نردِّد مع عالم الفيزياء: أنا متفائل.. لأن بلادى لم يبقَ فيها متشائمون.. لاتزال الحضارة ممكنة. لمزيد من مقالات أحمد المسلمانى