كانت أوراق اللعب بين سعد زغلول والاحتلال الانجليزى مكشوفة على الطاولة، شعب يريد الاستقلال، ومحتل يريد البقاء. ولأن الزعيم كان يجيد اللعب بالورق كما قال فى مذكراته فلم يكن يخاف أو يهتز مهما كانت أوراق اللعب أو التفاوض فى غير مصلحته وسعد زغلول (1858 1927) الذى جاء للقاهرة مجرد تلميذ من قرية إبيانة فى الغربية ليتعلم فى الأزهر، تتلمذ على يد جمال الدين الأفغانى، وتعرف على الإمام محمد عبده، فتشرب الوطنية والفكر الحر وعندما قامت ثورة عرابى شارك فيها، وكان يقوم بتوصيل الرسائل بين محمد عبده وعرابى. ولما فشلت الثورة، قبض على عرابى وتم نفى محمد عبده، سجن سعد زغلول أيضا وفصل من وظيفته كناظر قلم الدعاوى بمديرية الجيزة. وبعد خروجه من السجن وجد نفسه بلا وظيفة ولا أصدقاء بعد أن غيبتهم المنافى «السجون». وتمشيا مع مكر التاريخ يقرر الشاب المغامر أن يمتهن مهنة مزرية فى ذلك الوقت (مهنة المحاماة)، كان المجتمع ينظر اليها على أنها من أعمال الاحتيال والمراوغة، وأخفى سعد زغلول ذلك عن أهله، يقول فى مذكراته «إننى عملت بهذه المهنة والخجل يستر وجهى، وكلما سألنى سائل: هل صرت محاميا؟ أقول معاذ الله أن أكون كقوم خاسرين! ولكنه استطاع بحسن أخلاقه أن يجعل منها مهنة محترمة، وتختاره الأميرة نازلى وكيلا لأعمالها. وهناك، وخلال الصالون الذى كانت تعقده تعرف على اللورد كرومر، والتقى صديقه الإمام محمد عبده بعد عودته من المنفى، ولكن الأهم أن اختلاطه بالطبقة الأرستقراطية فتح له الطريق لأن يتزوج بصفية ابنة مصطفى فهمى رئيس وزراء مصر. وفى هذه الفترة أيضا تم اختياره قاضيا بالمحاكم الابتدائية فى سابقة هى الأولى من نوعها وصفها محمد فريد «بأنها حادثة لم يسبقها ولم يعقبها مثلها»، كان سعد أول محام تسند إليه وظيفة القضاء. ويتجلى مكر التاريخ بجانب سعد زغلول فى حادثة دنشواى 1906 التى جعلت مركز اللورد كرومر فى مصر محرجا للغاية وحتى يتقرب الى المصريين فإنه يختار سعد زغلول وزيرا للمعارف، ويلاقى هذا الاختيار تأييدا من مصطفى كامل ومن الإنجليز أيضا. ثم يصبح وزيرا للحقانية (العدل) ويصدر عدد من القوانين السالبة للحريات والتى يذهب بمقتضاها محمد فريد الى السجن. وتحدث مشاكل بينه وبين الحكومة ويستقيل. ويقرر الترشح للجمعية التشريعية فى دائرتين ويفوز فوزا ساحقا ويتم انتخابه وكيلا للجمعية التشريعية. وفى الجمعية التشريعية راح يصول ويجول متحدثا بلسان المعارضة حتى قال له صديقه ذات يوم: لماذا تتعب نفسك وكل الأعضاء بجانب الحكومة، فرد عليه: إننى لا أخاطب الجمعية التشريعية، بل الأمة، ولا أحدث الحاضر بل المستقبل! وعندما قامت الحرب العالمية الأولى أعلنت انجلترا الحماية على مصر، وتم حل الجمعية التشريعية، ودخل سعد زغلول فى مرحلة كمون، لكن مكر التاريخ لا يتوقف أبدا. فبعد أن انتهت الحرب أعلن الرئيس الأمريكى ويلسون حق الشعوب فى تقرير المصير. وهنا انتفضت آمال مجموعة من المصريين منهم سعد زغلول وعبد العزيز فهمى ومحمد محمود، وقرروا لقاء السير وينجت المندوب البريطانى للسماح لهم بالسفر إلى لندن لعرض قضية مصر، وتمت المقابلة بوساطة من رئيس الوزراء حسين رشدى. لكن المعتمد البريطانى لم يسمح لهم بالسفر بحجة أنهم لا يمثلون الشعب المصرى. ومن هنا جاءت فكرة التوكيلات، وأمام تعنت الاحتلال استقالت وزارة حسين سرى. وتوالت اجتماعات الوفد للمطالبة بعرض قضية مصر، ولم يجد الاحتلال من حل لإسكات الثوار غير القبض على زعمائهم فى 8 مارس 1919، فتم القبض على سعد زغلول واسماعيل صدقى ومحمد الباسل ومحمد محمود ونفيهم إلى مالطة، وظن الجميع بمن فيهم سعد زغلول أن الأمر انتهى، لكن الشعب المصرى العظيم هب فى ثورة عارمة، وتحت ضغط الثورة المباغت قرر الاحتلال الافراج عن سعد زغلول وصحبه والسماح لهم بالسفر لعرض قضية مصر. وفى لندن تلقى سعد زغلول أول صفعة من الرئيس الأمريكى ويلسون الذى اعترف بالحماية البريطانية على مصر، وجاءت الصفعة الثانية عندما قررت انجلترا ارسال لجنة ملنر إلى مصر للتحقيق فى الأحداث وقيل بعض أعضاء الوفد ذلك مثل عبدالعزيز فهمى وأحمد لطفى السيد وعدلى يكن وقرروا العودة ليلتقوا لجنة ملنر فى مصر. وأصبح سعد بمفرده ومعه بعض الشباب مثل مصطفى النحاس يرفضون لجنة ملنر. فى هذه اللحظة أصبح الشعب والزعيم شيئا واحدا، وفور أن أرسل سعد زغلول رسالة سرية إلى عبدالرحمن فهمى مسئول التنظيم السرى يخبره بالوضع. ثار الشعب المصرى وتمت مقاطعة لجنة ملنر والإنجليز تماما، حتى إن الأجنبى لو سأل أحد المصريين عن عنوان أو طريق، يرد عليه: اسأل سعد؟ وعاد سعد زغلول واستقبلته الجماهير استقبالا اسطوريا، فقد دخل الرجل قلوب المصريين ولم يخرج أبدا، حتى قالوا: الاحتلال على يد سعد أفضل من الاستقلال على يد عدلى يكن». وأدركت انجلترا أنها أمام نوعين من الوطنيين متشددين يمثلهم سعد ومعتدلين يمثلهم عدلى يكن. وكان المعتدلون منذ البداية يطالبون طبقا لمفكرهم أحمد لطفى السيد بتعديل الدستور ليقللوا من قبضة الانجليز والملك على مقاليد الأمور. لكن سعد زغلول الذى تمثلت فيه آمال المصريين فى الاستقلال التام هاجم المعتدلين هجوما عنيفا ووصفهم ببرادع الانجليز، وعندما أراد عدلى يكن أن يرأس وفد مصر للمفاوضات لأنه رئيس الوزراء، أطلق سعد صرخته «جورج الخامس يفاوض جورج الخامس». واشتعلت المظاهرات مرة أخرى وقابلتها الحكومة بالشدة فنزل سعد زغلول إلى الشارع وراح يغمس منديله فى دم أحد الشهداء، ويصيح هذا الدم على رأس عدلي!. ورغم ذلك صمم عدلى على خوض مفاوضات فاشلة مع الانجليز لتلقى عليه الجماهير القاذورات عند عودته. ولم تتوقف حماقات الانجليز لمواجهة الثورة ففى 25 ديسمبر 1921 وجهت السلطات الانجليزية إلى سعد زغلول وأعضاء الوفد إنذارا بأن يكفوا عن أى نشاط سياسى وأن يغادروا القاهرة إلى الريف.. وكعادته رفض سعد زغلول وكتب إلى الجنرال الإنجليزى «سأبقى فى مركزى مخلصا لواجبى، وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء، أفرادا وجماعات، فإنا جميعا مستعدون للقاء ما تأتى به بجنان ثابت. وفى الصباح جاء الانجليز وقبضوا على سعد، ونفوه إلى سيشل هذه المرة حتى يذكروا المصريين بمصير أحمد عرابى ويبثوا فى نفوسهم اليأس. لكن لم ييأس المصريون وبدأت المقاومة السلبية التى دعا إليها الوفد، وعاشت البلاد شهرين من الفوضى. مقاعد الوزارة خالية، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، والجهاز الحكومى فى حالة شلل تام، والاغتيالات تتربص بالانجليز فى الشوارع المظلمة. واسقط فى يد الاحتلال، وكان لابد من حل، فأصدرت انجلترا تصريح 28 فبراير 1922 من جانب واحد أعلنت خلاله إنهاء الحماية البريطانية والاعتراف بمصر دولة مستقلة، ثم صدور دستور 1923. الذى نص على أن الأمة مصدر السلطات. وقرر الاحتلال الافراج عن سعد زغلول وبعد عودته قام بخوض الانتخابات واكتسحها ب 90% من مقاعد البرلمان. واضطر الملك فؤاد إلى تكليفه بتشكيل الحكومة ليصبح أول رئيس وزراء منتخب فى تاريخ مصر. لكن وقع هذا النجاح كان قاسيا على الانجليز وعلى الملك فؤاد أيضا. ولذلك فعندما قام الوردانى باغتيال السردار الانجليزى السيرلى ستاك حاكم السودان فى شوارع القاهرة، قال اللورد اللنبي: لقد أرسلت لنا الأقدار بجثة السردار لحل موقف لم يعد محتملا. وزحف على رأس ترسانة المسلحين وطلب من سعد زغلول الإذعان لطلباته المجحفة، ورفض سعد هذه الطلبات وقدم استقالته بعد 10 شهور فقط رئيسا للوزارة. وعهد الملك فؤاد إلى أحمد زيوار بتشكيل الحكومة، وكان بليدا سمينا خاضعا للإنجليز، فأغلق البرلمان واضطر النواب أن يعقدوا اجتماعاتهم فى الكونتننتال. وبعد أن اتحدت الأحزاب تم اجراء انتخابات جديدة اكتسحها الوفد كالعادة. وقدم زيوار استقالته وتنحى سعد زغلول عن تشكيل الحكومة تجنبا لاعتراض الانجليز والملك. وألف عدلى يكن الوزارة، واجتمع البرلمان وأصبح سعد زغلول رئيسا لمجلس النواب، وحدثت أزمة كبيرة عندما عرضت ميزانية الدولة على مجلس النواب فى مايو 1927 وأيدت لجنة الحربية المقترحات الخاصة بإصلاح الجيش المصرى وتقويته. وعندما وصل هذا النبأ إلى دار المندوب السامى البريطانى، انبرت انجلترا تهدد وتتوعد، وقدمت مذكرة للسيطرة على الجيش والحدود قبلها عبدالخالق ثروت الذى خلف وزارة عدلى يكن. وأرسلت لندن ثلاث بوارج بريطانية إلى المياه المصرية. وقال وزير خارجية بريطانيا تشمبرلين فى مجلس العموم إن حكومة بريطانيا تدخلت فى هذه المسألة لأن فريقا من السياسيين المصريين أراد استعمال الجيش كأداة مقاومة لانجلترا. وفى لحظة التخاذل تلك من رئيس الوزراء عبدالخالق ثروت، كانت صحة سعد زغلول آخذة فى التدهور حتى وافاه الأجل فى 23 أغسطس 1927. مات سعد لكن مكر التاريخ كان أشد من كيد الإنجليز، لأنه بعد سنوات من المفاوضات غير المجدية، قام ضباط صغار من الجيش المصرى بثورة يوليو عام 1952، وقام الرئيس محمد نجيب بزيارة لضريح سعد زغلول فى فبراير 1953 وقد استطاع هؤلاء الضباط بقيادة جمال عبدالناصر إجبار الإنجليز على الجلاء عن مصر عام 1956 وأن يكون لمصر الدور الأبرز فى غروب شمس الامبراطورية البريطانية.. فما أشد مكر التاريخ لو تعلمون!.