قل لى ما هى مكانة كلية العلوم فى بلادك.. أقل لك مكانة بلادك فى العالم. هذه هى معادلة العلم والمكانة كما أراها. حين التقيتُ مؤرخ العلم المصرى العالمى الدكتور رشدى راشد فى باريس.. قال لي: إننى أتألم للغاية حين أجد جامعات مصرية كبرى تفتخر بأنها أصبحت ضمن أفضل «500» جامعة فى العالم.. إن هذا الفخر هو مصدر حقيقى للألم.. كيف يصبح هذا السقف المنخفض فى الطموح هو الغاية ومعيار النجاح؟!. إننى واحدٌ ممن يراهنون على حتميّة الانطلاق من الجامعات الحكومية المصرية.. إلى حين تتأسَّس وتستقّر جامعات بحثيّة أهليّة مرموقة إلى جوار الجامعات الحكومية.. لأجل أن تصبح بلادنا جزءًا من حركة العلم فى العالم. إن الجامعات الحكومية المصرية هى المكان الأنسب لاستعادة الأمل.. حيث لم تنجح الجامعات الأجنبية والخاصة حتى الآن فى تحقيق نجاحٍ لافت. ولايزال الرهان على الجامعات الأجنبية وفروعها.. صادمًا لدوائر النخبة الوطنيّة المصرية. تحتاج الجامعات المصرية إلى ثورة علمية كبري.. لقد أصبحت الفرصة أكثر إتاحة بعد أن صارت أكثر أمنًا واستقرارًا من أيّ وقت مضي. يمثِّل الوقت الراهن حقبةً ملائمةً تمامًا لانطلاق العمل الأكاديمى بعد تراجع الأيديولوجيا.. وانضباط الحرم الجامعي، وإطلاق عام التعليم فى بلادنا. فى الجامعات المصرية نخبةٌ مرموقة من العلماء والأساتذة الذين يمتلكون المعرفة والإرادة.. ويحتاج هؤلاء إلى الدعم والتأييد.. حتى لا يهاجمهم اليأس، وحتى لا تطرد العملة الرديئة العملة الجيّدة. إن نظرةً على جغرافيا الأقسام فى جامعات العالم وجغرافيا الأقسام والشُّعَب التعليمية فى مصر.. توجِب إعادة النظر، وضرورة التحديث الجريء للاسم والمسمّى. الحضارة المعاصرة، فى تقديرى, هى نتاج علميْن أساسييْن: الرياضيات والفيزياء. كما أن علوم الكيمياء والأحياء والعلوم العولميّة الجديدة هى كلها, مع الرياضيات والفيزياء, أساس العصر الذى نعيش فيه. لا أعتقد أنه من المناسب استمرار كلية العلوم فى مصر على النحو الجاري.. والأنسب فى تقديرى هو تقسيم كلية العلوم..على غرار جامعة موسكو الحكومية: كلية الفيزياء، وكلية الكيمياء، وكلية علم الأحياء، وكلية الجيولوجيا. كما أنَّه يجب تأسيس كلية الرياضيات.. وذلك من العلوم الرياضية فى كليّتى العلوم والهندسة. وإنْ كان البعض يجمَع بين الفيزياء والرياضيات كما فى جامعة مانشستر البريطانية كلية الهندسة والعلوم الفيزيائية. إن تأسيس كليّتين للفيزياء والرياضيات.. وتطويرهما بالمعايير العالمية يشكِّل, فى تقديرى, حجر الأساس للمشروع الحضارى المصرى. لقد تأسَّست جامعة كامبريدج منذ عصر اسحق نيوتن على أساس التميّز فى هذين الحقليْن: الفيزياء والرياضيات.. وتعتز الجامعة بفوز عدد من خريجيها بجائزة فيلدز العالمية للرياضيات. وقد شهدت جامعة هارفارد فى الستينيات والسبعينيات مشروعًا اشتهر باسم «مشروع هارفارد فى الفيزياء».. وهو المشروع الذى استهدف تطويرَ المناهج الفيزيائية، وإنشاء مدارس ثانوية لتعليم الفيزياء فى الولاياتالمتحدة. وفى مؤسَّسة ماكس بلانك العلمية الألمانية المرموقة.. والتى تأسَّست بعد الحرب العالمية الثانية بثلاث سنوات فقط.. على أنقاض مؤسساتٍ سابقة.. يوجد معهد ماكس بلانك للفيزياء الفلكية، ومعهد «ماكس بلانك لفيزياء خارج الأرض»، كما أن هناك «معهد ماكس بلانك لفيزياء الجاذبية» «معهد ألبرت اينشتاين». وفى اليابان يشتهر معهد فيزياء الحالة الصلّبة فى جامعة طوكيو، كما يشتهر معهد يوكاوا للفيزياء النظرية» فى جامعة كيوتو. وفى بريطانيا يشتهر مختبر الفيزياء النظرية بجامعة أكسفورد. إن العديد من المختبرات والمعامل تموّلها الحكومة، كما تموّلها الشركات الكبرى ولاسيما شركات الطاقة. يدير معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا «Caltech», والذى كان الدكتور أحمد زويل أحد أعظم علمائه, مختبر الدفع النفاث.. المموّل من الحكومة ووكالة ناسا. وقد حصل أكثر من ثلاثين عالمًا من «Caltech» على جائزة نوبل، كما أن أكثر من ثلاثين عالمًا أيضًا قد حصلوا على جائزة نوبل من خلال عملهم فى مختبر كافنديش فى جامعة كامبريدج.. وكان من بينهم العالم الباكستانى محمد عبد السلام على جائزة نوبل للفيزياء. إن مختبر لورنس ليفرمور الوطنى فى كاليفورنيا تقوم يتمويله وزارة الطاقة الأمريكية. كما أن «مختبر أرجون الوطنى» فى ولاية إلينوى تموّله وزارة الطاقة أيضًا.. وكذلك فإن مختبر لورانس بيركلى الوطنى الذى يطل على الحرم الرئيسى لجامعة كاليفورنيا بيركلي.. يتلقى تمويلًا حكوميًا. إن الكثير من المعاهد والمختبرات تحمل أسماء علماء كبار.. مختبر كافنديش فى كامبريدج يحمل اسم عالم الكيمياء والفيزياء البريطانى هنرى كافنديش.. كما أن «مختبر لورنس بيركلى» يحمل اسم العالم أرنست لورنس الحائز على جائزة نوبل 1939. ولقد كانت فكرة أن تحمل جامعة زويل اسم العالم الكبير الدكتور أحمد زويل.. امتدادًا لهذه النماذج العالمية الموجودة فى كبريات مؤسَسات العلم فى العالم. ربما يكون من المناسب فى مصر.. إنشاء مختبرات علميّة كبرى تحمل أسماء كبار علماء الجامعة وكبار علماء مصر.. وكذلك أسماء علماء العرب والمسلمين، وعلماء العالم.. الذين أضاءوا تاريخ الإنسانية. إذا ما تأسَّست كلية الفيزياء جامعة القاهرة، وكانت بالطبع واحدة من أرفع كليّات القمة فى مصر، وإذا ما أسَّست كلية الفيزياء مجموعة مختبرات مصطفى مشرفة: مختبر مصطفى مشرفة للفيزياء النظرية، مختبر مصطفى مشرفة لعلوم المواد، مختبر مشرفة لعلوم الرياضيات، مختبر سميرة موسى للفيزياء النووية.. ستكون جامعة القاهرة قد غادرت موقعها المُرهَق بالبيروقراطية، وعادت إلى سابق مجدها.. جزءًا من قوة الحاضر وصناعة المستقبل. إن مختبرات يحيى المشد للهندسة النووية فى كلية الفيزياء جامعة الإسكندرية، ومختبرات فاروق الباز لعلوم الكواكب فى جامعة عين شمس، ومختبرات محمد غنيم للطب الجزيئى فى كلية الطب جامعة المنصورة.. ليست مجرَّد تخليد لشخصياتٍ عظيمة.. ولكنها صياغة استراتيجية شاملة لسياسات العلم.. تتوافق مع حالة العلم فى العالم. قولًا واحدا: لا يمكن المضيّ إلى المضمون من دون تخطيط الشكل العام من أعلى وأبعد. إن الثورة الضرورية التى تحتاج إليها بلادنا.. هى الثورة العلميّة.. ثورة الفيزياء والرياضيات. العلم هو الحلّ. لمزيد من مقالات أحمد المسلماني