إذا كانت تحديات مكافحة الجرائم «الأرضية» كثيرة فإن مكافحة الجرائم التى تقع عبر الفضاء الإلكترونى تبدو أكثر وأعقد. ومثل كل اختراع بشرى ثورى وكبير كشبكة المعلومات الدولية إنترنت كان لا بد للعالم أن يدفع ثمن تطوره. فى البداية كان الترحيب هائلاً والفرحة عارمة. فقد جاءت شبكة الانترنت لتؤذن بالسقوط النهائى للحدود والحواجز الجغرافية واللغوية والسياسية بين البشر، وتجعل من حق الإنسان فى المعرفة، والتعبير، والحصول على المعلومات وتداولها حقوقاً عالمية. لكن سرعان ما اكتشفت البشرية أن هذه العوالم الواسعة الرحيبة للفضاء الإلكترونى تنطوى فى الوقت ذاته على مخاطر وأضرار بقدر ما تقدمه من فرص وآفاق. فبفضل شبكة إنترنت أصبح بمقدور البشر يتواصلون ويفكرون ويتداولون المعلومات ويعبرون عن آرائهم ويبيعون ويشترون. لكنهم فى الوقت ذاته، ومن خلال إمكانات وتقنيات هذا التواصل الفضائى الإلكترونى أصبحوا يحرضون على العنف، ويخططون للقتل، ويسرقون، ويحتالون، ويسطون على الحسابات المصرفية، وينتهكون الخصوصيات، ويزورون الوثائق، ويدمرون المرافق والبنى الأساسية الإلكترونية للدول، ويتلاعبون بنتائج الانتخابات، ويتاجرون بالبشر، الخ... كل هذا وغيره أصبح يتم من خلال فضاء إلكترونى فسيح بامتداد الكرة الأرضية، والأخطر أنه لا يمكن تحديد هوية مرتكبى هذه الأفعال إلا بجهد أمنى خارق. أفعال شبحية يرتكبها أشباح. وشركات انترنت عملاقة تطلق المنصة الالكترونية تلو الأخرى وهى تتشبث بخصوصية وسرية هوية المشتركين فيها. تكشف حالة الارتباك السائد حالياً عن اتهامات متبادلة بين أطراف عديدة. فهناك أولاً شركات الإنترنت الكبرى عموماً وشركات التواصل الاجتماعى بوجه خاص مثل فيسبوك وتويتر، وهى تدافع عن قيم عولمة الفضاء الإلكترونى وحق الحصول على المعلومات وتداولها وحريات الرأى والتعبير، ولهذا فهى تتوجّس من حركة التقييد القانونى لهذه الحقوق والحريات وتناهضها. فحركة التقييد أو بالحد الأدنى التنظيم القانونى تعنى إمكان مساءلة شركات الانترنت عن المحتوى غير المشروع. وهناك الأفراد الذين يعانون التعارض بين مصلحتهم فى ممارسة حريات الرأى والتعبير وحق تداول المعلومات والاستفادة من الخدمات الإلكترونية. فممارسة حريات الرأى والتعبير من جانب البعض قد تصطدم بأفعال انتهاك الخصوصية أو التشهير أو السب والقذف أو التحريض على العنف من جانب البعض الآخر. والاستفادة من الخدمات الإلكترونية المصرفية والمالية من جانب البعض يكتنفها مخاطر اختراق الحسابات المصرفية وسرقة البطاقات الائتمانية والاحتيال من جانب البعض الآخر. كما أن التسوّق الالكترونى أصبح بفضل شبكة إنترنت سوقاً واسعة لعرض وبيع ونقل السلع إلى حيث يوجد المشترى فى أى بقعة من بقاع الأرض (بلغ إجمالى المبيعات السنوية لمتجر أمازون الالكترونى 900 مليار دولار). لكن فى مواجهة هذه الخدمات والإمكانات تكمن أيضاً ممارسات غير مشروعة وجرائم، إذ أعلنت الشرطة الأوروبية EUROPOL مؤخراً ضبط أكثر من 4500 متجر إلكترونى يبيع سلعاً مزوّرة أو مقلّدة. ما سبق يعنى أن ثمة تعارضاً بين مصالح الأطراف المعنيّة بنشاط الفضاء الالكترونى بين شركات الانترنت، والدول، والأفراد. بل إن مصالح الطرف الواحد نفسه قد تنطوى أحياناً على تعارض. من هنا تتضح أهمية التنظيم القانونى لهذه المصالح المتعارضة لأنه فى كل خدمة تقدمها شبكة انترنت يكمن خطر وقوع جريمة محتملة، وفى استعمال كل حق أو حرية ثمة احتمال للإضرار بطرف آخر هو ذاته صاحب حق. أحد التحديات القانونية الآنية فى بعديها المحلى والدولى تتمثل فى كيفية مكافحة المحتوى المزيّف على شبكة انترنت من خلال حظر وتجريم هذا المحتوى إذا كان يشكّل جريمة من تلك الجرائم التى تعارفت عليها النظم القانونية المعاصرة. لكن هذه الجهود التشريعية المرجوّة تصطدم فى واقع الأمر بعدة عقبات أولاها أن الجهود التشريعية لحظر وتجريم هذا المحتوى المزيّف ستظل محدودة الأثر ما لم تقترن بنظام إجرائى فعّال وذكى لكشف هذا المحتوى والوصول إلى فاعليه ومساءلتهم قانوناً. أما الثانية فتتمثل فى ظاهرة الهويات المجهولة لأصحاب حسابات التواصل الاجتماعى التى تحول فى الكثير من الأحيان دون الوصول إلى الأشخاص الحقيقيين أصحاب المحتوى المزيّف أو أى محتوى إلكترونى آخر يمثل بذاته جريمة. ويرتبط بظاهرة الهويّات المجهولة لأصحاب حسابات التواصل الاجتماعى ظاهرة الحسابات الآلية أو ما يُسمى بالذباب الإلكترونى، وهو الاستخدام المكثف على نطاق واسع لترويج رأى ما أو الهجوم على رأى آخر. أما العقبة الثالثة فهى عقبة تقنية تتعلق بالجانب الوقائى الذى يمكن أو بالأحرى يجب أن تضطلع به شركات مواقع التواصل الاجتماعى. فمن خلال تقنية الحجب الفورى أو السريع للمحتوى الإلكترونى غير المشروع يمكن المضى قُدماً نحو تحقيق الأمن السيبرانى. لكن ستظل الإجابة كما السؤال نفسه ذات طابع تقنى يتعلق بمدى قدرة شركات مواقع التواصل الاجتماعى على فرز المحتوى غير المشروع والقيام بحجبه، والمدة التى يستغرقها هذا الحجب، وما يرتبط بذلك أيضاً من جوانب تقنية أخرى. والأهم كيف يمكن صياغة مبادرة دولية واسعة النطاق تتجاوز الاختلافات القانونية المحلية؟ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم