يبدو الإنترنت في مصر ومعظم البلدان العربية كأنه حلبة صراع، طرفاها جمهور مستخدمي الإنترنت من جهة وفي مقابلهم تبرز الحكومات التي تستخدم سلطتها وتأويل بعض المواد القانونية لفرض حاجز الرقابة علي الانترنت بأشكاله المتعددة التي تبدأ بالحجب، وتنتهي باعتقال بعض المدونين ونشطاء الإنترنت. في الغالب يتوقف نشاط المدونين ونشطاء الإنترنت علي ابتكار حلول تقنية لتجاوز رقابة الحكومات، أما المنظمات الحقوقية الطرف الغائب الحاضر دائماً في معركة الحريات علي الإنترنت، فيقتصر نشاطها علي رصد الانتهاكات المتتالية وإصدار البيانات المنددة. لكن الأسبوع الماضي شهد تطوراً ملفتاً في محاولة لفهم سياسات الحكومة المصرية اتجاه الانترنت، وتوضيح الثغرات القانونية التي يمكن استغلالها لفرض الرقابة عليه الانترنت. حيث تشاركت ثلاث مراكز حقوقية في إصدار تقرير مشترك لتحليل سياسات الحكومة المصريه اتجاه الانترنت اعتماداً علي أدائها وقراراتها في هذا الشأن خلال عام 2009. التقرير الذي حمل عنوان "حرية الرأي والتعبير في مصر.. تحليل سياسات الدولة في 2009" شارك في إصداره كل من مركز هشام مبارك للقانون، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، ورامي رؤوف مسئول الإعلام الإلكتروني بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية. يبدأ التقرير بمقدمة تاريخية توضح بنية نظام الاتصالات داخل مصر، حيث بدأت صناعة الاتصالات السلكية واللاسلكية في مصر عام 1854 حينما افتتح أول خط تلغراف بين محافظتي القاهرة والإسكندرية. وظلت الهيئة القومية للاتصالات السلكية واللاسلكية هي المزود الوحيد للخدمات العامة في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية في مصر حتي عام 1996، حيث تم تغيير اسمها بعد ذلك إلي الشركة المصرية للاتصالات. وبدأت خدمة الانترنت في مصر لأول مرة في أكتوبر عام 1993 من خلال شبكة الجامعات المصرية وشبكة مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، وفي عام 1996 سمحت الحكومة للشركات الخاصة بتقديم خدمات الإنترنت التجاري. وبعدها بثلاث سنوات استحدثت الحكومة المصرية وزارة جديدة باسم وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لتتولي الأعمال المتعلقة بمجتمع المعلومات. كل ما سبق كان سلسلة من الخطوات اتخذتها الحكومة لإعادة هيكلة قطاع الاتصالات وتطويره، حيث نجحت الحكومة المصرية في جذب الكثير من الاستثمارات والتوسع في الاقتصاد الرقمي والمعلوماتي، وأدركت الحكومة جيداً أهمية هذا المجال والمصالح الضخمة الممكنة من خلاله. بعد تلك المقدمة يرصد التقرير تطور تعامل المستخدم المصري للإنترنت وبروز دوره كأهم وسيلة اعتمد عليها النشطاء السياسيون للمشاركة في الفعاليات السياسية المختلفة التي جرت في مصر خلال العشر سنوات الماضية، ويفسر التقرير لجوء الحالمين بالتغيير والنشطاء السياسيين للانترنت كنتيجة لزيادة الإجراءات التعسفية لاستخراج التصريحات المتعلقة بإنشاء الصحف، مع زيادة الرقابة الأمنية علي الصحف والقنوات التلفزيونية، ارتفاع سرعة وقوع الأحداث في مصر مما تتطلب سرعة أعلي في التغطية_ ووجود فرصة لتغطية الأحداث دقيقية بدقيقة. كل هذا حول الانترنت إلي مساحة قوية للمعارضة ومصدر قلق بالنسبة للحكومة التي كانت حتي بدايات الألفية تنظر للانترنت بصفته فقط استثماراً جديداً سيجلب لها مصالح اقتصادية واسعة. لهذا فبعد 2005 بدأت علاقة الحكومة بالانترنت في التغيير في محاولة للتعرف عليه أكثر وكانت البداية من خلال تعليق رئيس الوزراء أحمد نظيف علي مدونة "علي اسم مصر". وفي مارس 2009 بدأ فاروق حسني وزير الثقافة بتوظيف أدوات الإعلام الإلكتروني أثناء خوضه انتخابات الرئاسة باليونسكو، وفي أغسطس 2009 أطلق جمال مبارك الأمين العام المساعد وأمين السياسات للحزب الوطني الديمقراطي أول حملة إلكترونية له باسم "شارك" بهدف فتح باب الحوار وتبادل الرأي مع الشباب حول قضايا مختلفة ولكسب المزيد من التأييد. وفي نوفمبر 2009 طورت الحكومة المصرية من تعاملها مع الانترنت حينما أعلن د.طارق كامل وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ود.هاني هلال وزير التعليم العالي عن تقديم مصر لطلب تسجيل المواقع باللغة العربية تحت نطاق (دوت مصر). وهو ما حدث بالفعل. ورغم إشارة رامي رؤوف كاتب التقرير إلي أهمية استخدام أسماء نطاق عربية وما يمكن أن ينتج عنها من زيادة في المحتوي العربي علي الانترنت وتوسيع الاستثمارات الرقمية، لكنه في نفس الوقت قد يشكل عائقاً أمام تداول المعلومات والوصول إليها في البلدان غير العربية أو البلدان التي لا تتوفر فيها لوحة مفاتيح عربية، بالتالي يحذر التقرير من تحول المحتوي العربي علي الإنترنت إلي جزر منفصلة بسبب حاجز اللغة. ويحذر التقرير الحقوقي من قانون "تنظيم البث المسموع والمرئي" الذي أعدته وزارة الإعلام بغرض عرضه علي مجلس الشعب، والذي قررت الحكومة المصرية فيه إدراج الشبكات الحاسوبية والوسائط الرقمية تحت الرقابة باعتباره بثاً مسموعاً ومرئياً، لكن الأخطر حسب التقرير أن النظام التشريعي الحالي يعاني من فراغ تشريعي في التعامل مع الإنترنت، الأمر الذي يجعل القائمين علي تنفيذ القانون يستعينون بقانون العقوبات في محاسبة مستخدمي الإنترنت، كما يضع المشرع مستخدم الإنترنت في مكانة الصحفي بالرغم من عدم حصول المستخدم علي أي من الامتيازات القانونية الممنوحة للصحفي، لذلك يوصي التقرير الحكومة المصرية باعتبار الفضاء الالكتروني وسيطا لتداول المعلومات، والتراجع عن ممارسات رقابة المحتوي الإلكتروني والمراسلات الشخصية واحترام حق مستخدمي الإنترنت في الخصوصية.