أولت وسائل الإعلام العالمية اهتماما كبيرا لاستقالة محمد جواد ظريف وزير خارجية إيران، وذهب بعضها بعيدا فى تحليل آثار الاستقالة على تماسك النظام الإيرانى. وفى الواقع فإن ظريف يعد أحد أقوى وزراء الخارجية الذين تعاقبوا على إيران، فلا يتفوق عليه فى قوته إلا على أكبر ولاياتى الذى ظل وزيرا للخارجية لمدة ستة عشر عاما وهو حاليا مستشار المرشد، وبالتالى فإن استقالة ظريف ليست كاستقالة أى مسئول عادى فى إيران. الأهم من ذلك أن ظريف لا يعبر عن نفسه فقط لكنه يمثل اتجاها سياسيا معينا داخل النظام الإيرانى، فهو مع الرئيس حسن روحانى صنعا الاتفاق النووى فى عام 2015، وبالتالى فإن استقالته كانت تعنى ترك روحانى وحده فى عين العاصفة يواجه الهجوم العنيف للمتشددين على هذا الاتفاق. ولكون ظريف يوجد فى سفينة واحدة مع روحانى فإن هذا يفسّر لماذا بادر روحانى برفض استقالة ظريف، لكن هذا ليس هو التفسير الوحيد لرفض الاستقالة، فالتفسير الأقوى أن ظريف يحظى بدعم رأس النظام الإيرانى أى المرشد، ولقد أوضح هذا الدعم بشكل لا لبس فيه أحد صقور النظام هو اللواء قاسم سليمانى قائد فيلق القدس بالحرس الثورى. ففى تعليق هذا الأخير على خبر الاستقالة قال إن ظريف لا يزال مدعوما من كبار المسئولين فى النظام خاصة قائد الثورة الإسلامية. نأتى للسؤال لماذا استقال ظريف؟ شخصيا لم أقتنع كثيرا بأن السبب هو شعور ظريف بالحرج بعد استبعاده من لقائيّ الرئيس بشار الأسد مع كل من مرشد الجمهورية الإيرانية ورئيسها وفى المقابل حضور قائد فيلق القدس فى اللقاءين، لم أقتنع لأن الصراع السورى بتعقيده واستمراريته أدى لتزايد دور الحرس الثورى، فلا ننسى أن عسكرة الصراع السورى بعد فترة وجيزة من بدايته أدت إلى تقليل وزن الجهود الدبلوماسية، واستمر هذا الوضع قائما حتى رجحت كفة الجيش السورى والقوى الموالية له بعد التدخل الروسى فى سبتمبر 2015، وبالتالى بدأ مسار الأستانة فى نهاية عام 2017 ومن بعده مسار سوتشى. بقول آخر عندما نناقش الصراع السورى فإن قاسم سليمانى لابد أن يحضر، ومن المؤكد أن زيارة الأسد لم تكن فقط لشكر إيران على وقوفها بجوار سوريا لكن أيضا للتداول فى شأن مصير إدلب والمنطقة العازلة وأسرى داعش... إلخ وتلك أمور فيها من استدعاء القوة الخشنة أكثر مما فيها من استحضار القوة اللينة. إن الصراع بين أجنحة النظام الإيرانى حقيقة واقعة منذ عام 1979، وهو صراع عادة ما يوصف بأنه بين المحافظين والإصلاحيين أو بين المتشددين والمعتدلين، لكن فيما يخص واقعة غياب ظريف عن لقاءّى الأسد وحضور سليمانى فمن الصعب تسكين هذا الحدث بالتحديد فى إطار الصراع بين ظريف كرمز للمعتدلين وسليمانى كرمز للمتشددين، فَلَو صح هذا القول لكان من المفهوم أن يحضر ظريف مع روحانى لقاء الرئيس بشار الأسد مادام أن روحانى وظريف يقفان فى المعسكر نفسه، لكن ظريفا لم يحضر حتى هذا اللقاء، فهل كان روحانى نفسه يريد إحراج ظريف؟ لا توجد له مصلحة فى ذلك. يقود بعض الشطط إلى التفسير التالي: إن الضجة الكبيرة التى أثيرت فور استقالة ظريف، وتصوير الأمر على أن ظريف ثأر لكرامته بسبب تهميشه من جانب صقور النظام، هذه الضجة ربما أوصلت رسالة إلى الأوروبيين مفادها أن ظريف الذى عرفهم وعرفوه وتفاوض معهم بجدارة قد فاض به الكيل من تضييق الخناق عليه، وأنهم ما لم يساعدوه ويدعموه فإنه قد يختفى من المشهد السياسى. إن الاتفاق النووى كان له معارضوه منذ اليوم الأول لأسباب كثيرة، لكن كان دائما يتم إفحام هؤلاء المعارضين بالقول إن هناك جوائز اقتصادية كبرى تنتظر إيران بعد رفع العقوبات. الآن عادت الولاياتالمتحدة إلى سياسة العقوبات، وصحيح أن الاتحاد الأوروبى اجتهد حتى تَوَصَل لآلية مالية لإنقاذ الاقتصاد الإيرانى، إلا أن فعالية الآلية المذكورة تتوقف على درجة إقبال الشركات الكبرى على التعامل بها والتضحية بمصالحها مع الولاياتالمتحدة، وهذه مسألة محل نظر وقد شاهدنا بعضا من كبريات شركات النفط والسيارات وغيرها تغادر السوق الإيرانية. لذلك يحتاج إذن ظريف (وقبل منه روحاني) إلى جهد أكبر من الأوروبيين. والمعضلة هنا هى أن الأوروبيين يجدون أنفسهم بين المطرقة والسندان، أما المطرقة فهى أن انسحاب إيران من الاتفاق سيعنى أن تستأنف برنامجها النووى وسيزيد من مخاطر اندلاع مواجهة عسكرية فى الشرق الأوسط، وأما السندان فهو أن لإيران سلوكها المزعزع للاستقرار حتى فى داخل بلدان الاتحاد الأوروبى نفسه. ولأن أوروبا تعانى هذا المأزق تبدو لنا سياستها متناقضة، فهى تساعد إيران على مواجهة العقوبات الأمريكية من جانب، وتفرض هى نفسها عقوبات على إيران وحلفائها من جانب آخر، وهى تستميت فى الدفاع عن استمرارية الاتفاق النووى من جهة، وتصمم على التوصل لاتفاق مكمل يلبّى بعض الشروط الأمريكية من جهة أخرى. صفوة القول هي: نعم هناك صراع أجنحة فى إيران، ونعم توجد محاولات متكررة لإضعاف جناح روحانى /ظريف، نعم تُعّد قضية الاتفاق النووى فى بؤرة الصراع، ونعم تضع الأزمة الاقتصادية كل المدافعين عن الاتفاق فى مأزق. لكن هذا كله لا شأن له بزيارة الأسد إلى طهران، ومع ذلك رب ضارة نافعة فلعل الأوروبيين بعد هذه الضجة الكبرى يدركون خطورة الموقف بالنسبة للمعتدلين فى إيران، و لعلهم يتريثون أكثر قبل أى إجراء عقابى، والله أعلم. لمزيد من مقالات د. نيفين مسعد