ما جرى لمصر والمصريين خلال الحرب العالمية الأولى عمق أسباب ثورة 1919، حيث وفرت سياسات الاحتلال البريطانى زخما للحركة الوطنية وعززت عوامل الوحدة الوطنية، ورفعت سقف تطلعات الأمة المصرية الى انتزاع الاستقلال التام. وفى هذا المقال لا أتناول وقائع الثورة أو قوى الثورة، وإنما أواصل تناول أسبابها، وإن عرضت لتراوح مطالب القوى السياسية المختلفة بين مجرد التطلع الى توسيع الحكم الذاتى لمصر فى إطار الحماية من جانب سلطان مصر والقوى المرتبطة بالاستعمار، والكفاح الجماهيرى بشتى وسائل التفاوض والتظاهر من أجل الاستقلال التام، وبينهما القوى التى لم يتعد طموحها انتزاع استقلال منقوص ببقاء قوات الاحتلال وحماية المصالح البريطانية. وأسجل، أولا، أن حسين رشدى باشا رئيس الوزراء قد وقع قرار الزج بمصر فى الحرب العالمية الأولى مجاناً، وزعم إنه لولا قراره المذكور لأعلنت انجلترا ضم مصر إلى إمبراطوريتها نهائيا، وكان بمقدوره انتزاع الحكم الذاتى على الأقل. أعلنت انجلترا فرض الأحكام العرفية على مصر وأصبح الجيش البريطانى هو السلطة التشريعية والتنفيذية فيها، وأصدرت قرارًا بضم مصر إلى ممتلكات التاج البريطانى، ثم اكتفت بفرض الحماية على مصر، ومع رفض فرنسا الموافقة على الضم. ورفعت انجلترا وظيفة المعتمد والقنصل العام البريطانى إلى ما سمى بالمندوب السامى، الذى كان أول ما عمله هو إطلاق أيدى المستشارين الإنجليز؛ فاصبحوا الوزراء الحقيقيين وصار المستشار المالى الانجليزى رئيس الوزراء الفعلى فى مصر. كما قررت بريطانيا عزل الخديوى عباس حلمى الثانى، وأعلنت حسين كامل سلطانا فسجل الأخير صفحة من الهوان الذى عاشته مصر فى أسر الحماية، حين تنازل عن مطلبه بالاستقلال الذاتى لمصر، وانصاع لطلب ألا يبت فى أمر كبير أو صغير بغير موافقة دار الحماية!! وفى وراثة العرش مع اشتداد مرض حسين كامل عينت بريطانيا فى 9 أكتوبر 1917 أحمد فؤاد سلطاناً على مصر، ليكون مطواعا سهل الانقياد، لأنه شخصية ضعيفة ولم يكن محبوباً من أحد ولا يوثق فيه، ولم تسيطر عليه كراهية الإنجليز!! وثانيا، أن أمريكا، التى دخلت الحرب حين ضربت الغواصات الألمانية البواخر الأمريكية فى المحيط الأطلنطى، أعلنت بلسانها رئيسها وودرو ويلسون فى 8 يناير 1918 أن لكل شعب الحق فى تقرير مصيره، وأن الأمانى القومية يجب أن تحترم، وزعم رئيس وزراء انجلترا التزام بلاده بهذه المبادئ بعد الحرب. وفى أواخر أغسطس 1918 اتفق السلطان أحمد فؤاد مع رئيس الوزراء حسين رشدى على السعى لتحديد شكل الحماية بتوسيع الاستقلال الذاتى، وقام حسين رشدى وعدلى يكن بوضع مشروعات لم تخرج عن الحكم الذاتى وتوسيع اختصاصات الجمعية التشريعية. وفى المقابل بدأت الحركة الوطنية تظهر بوضوح بعد كتم أنفاسها خلال الحرب، وظهرت فكرة إرسال وفد رسمى لمؤتمر الصلح بباريس للمطالبة بحقوق مصر، واعتبار مسألة مصر مسألة دولية. وبينما عقدت الاجتماعات فى بيت سعد وغيره من أعضاء الجمعية التشريعية للمطالبة بحقوق مصر، قامت حركة من بعض الشبان المصريين أميل إلى مبادئ الحزب الوطنى، وتوجه قادتهم مصطفى النحاس وعلى ماهر وأمين الرافعى إلى سعد زغلول باعتباره الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية ليصبح زعيما لهذه الحركة مستنداً الى شعبيته. وفى 11 نوفمبر 1918 أعلنت الهدنة، واتفق سعد زغلول مع عبد العزيز فهمى وعلى شعراوى- زميليه فى الجمعية التشريعية- على أن يطلبوا من دار الحماية السماح لهم بالسفر إلى لندن لعرض مطالب مصر على الحكومة الإنجليزية. وفى اللقاء مع ممثل الحماية البريطانية، تصدر سعد الحديث وطلب إلغاء الأحكام العرفية والرقابة على المطبوعات، ثم طلب مع زميليه الاستقلال التام لمصر. وثالثا، أن بريطانيا بدلا من دعوة سعد زغلول والوفد الوطنى أوفدت لجنة برئاسة وزير المستعمرات البريطانى اللورد ملنر، فى ديسمبر 1919، وكلفت وفقا لخطاب تفويضها بتحقيق أسباب ما وصف بالاضطرابات وتقديم تقرير عن الحالة الحاضرة وتوسيع الحكم الذاتى وحماية المصالح الأجنبية. وفى مطلع تقرير اللجنة تسجل أن رجال الحكومة كانوا على نقيض ما فعله جمهور الوطنيين والجرائد الوطنية الذين أثاروا عواصف الاحتجاج والاستنكار فور وصول اللجنة. وبين أشكال المعارضة القوية والمنظمة لها يسجل التقرير أن التلغرافات التى انهالت عليها معلنة العزم على الاعتصام احتجاجا على وجودنا من طلاب المدارس والنقابات وموظفى الحكومة بلغت 1131 تلغرافا بينما لم يصل سوى 29 تلغرافا للتهنئة معظمها من أناس يعرفون بعض رجال اللجنة شخصيا. وقد هاجمت الجرائد الوطنية اللجنة ونادت بأن كل اعتراف باللجنة يعنى الرضا عن الحالة الحاضرة، وأن كل مصرى تكون له علاقة بأعضائها يرتكب جريمة الخيانة الوطنية، واتفقت كلمة معظم الكتاب على أن سعد زغول باشا المقيم بباريس هو الوكيل الذى أنابه الشعب المصرى عنه، فالأولى بملنر ولجنته أن تفاوضه. وأضرب طلاب المدارس والمحامون وعمال الترام عن العمل، وخرجوا فى مواكب سلمية منظمة حاملين الأعلام، شاركتهن فيها أنسات وسيدات مصر، يهتفون باسم سعد زغلول ويرفعون شعار الاستقلال التام وضد ملنر ولجنته. ورابعا، أن وزير المستعمرات البريطانى ملنر قد اعترف فى يومياته بمصر الى أن حكمنا ووجودنا فى مصر لن يحظى بالقبول الشعبى من جانب أى فئة من أهالى البلاد!! ثم سجل فى تقريره أن ما وصفه بالاضطرابات التى وقعت فى مارس 1919 تعاظمت بسبب حوادث تتعلق بالحرب وأن السبيل قد مهد لها قبل حصولها بزمان طويل. ومكرراً ذرائع احتلال مصر واستمراره، التى فندتها بمقالات سابقة، يسلم بأن جيش الاحتلال كان الحاكم الحقيقى لمصر. ثم يسجل أن مصريى 1920 يختلفون عن مصريى 1910 ويختلفون كثيرا عن مصريى 1890، سواء كانوا من أهل المدن أو من الفلاحين، لأننا لم نحل القضية المصرية. ومشيرا الى ما تحمله الشعب المصرى من تكاليف وقيود فى فترة الحرب!! يعترف بالجفاء والنفور تجنيد فيلق العمال والهجانة المصرى، ومصادرة حيوانات العمل والنقل للفلاحين، ومصادرة غذائهم من الحبوب، وجمع الأموال، وإن زعم أن الاستهجان لطريقة التنفيذ كان الأشد. وبجانب تأثير ارتفاع أسعار السلع الأساسية ارتفاعا لم يسبق له مثيل على الطبقات الفقيرة، يسلم بتأثير مبادىء ويلسون- وأهمها حق الشعوب فى تقرير مصيرها- على الرأى العام المصرى، وخاصة طبقاته المتعلمة. لمزيد من مقالات د. طه عبدالعليم