أن تنصت إليه.. طمأنينة.. أن تجلس إليه طوق الأمان.. أن تلمسك مهابته.. فالصفو فى ركابك.. أن يشملك تواضعه. فشيمة أهل الورع.. أن تستظل بصبره فمفتاحك الفرج.. أن تسمع مشورته.. فطريقك فلاح.. أن تسأله.. منحت فحوى الإجابة.. أن تضمر تأرجحًا.. يثبت خطاك.. أن تردد ببغاء القول يأتيك بصحيح القول.. أن تنادى بتجديد الخطاب الدينى فذاك نداؤه المبكر.. أن تذكر الله يذكرك بأن الله يذكرك إذا ما ذكرته.. أن تصلى على رسول الله فيزيد على النبى صلاة وسلاما أن يقول فتُنصت، ويشرح فتَقنع، ويأتيك بالبيان الأجمع، فلا حُجة لبليد متقوقع، أو متعثر يتأرجح، أو مدع يحبو، أو غليظ يتجاوز، أو شارد يهذو.. أن تطرق أزهره فتزداد قناعة بأن الدين لله والوطن للجميع.. أن تذكر حدود الله فليس فى الشرح مقتصر على المعنى اللغوى الضيق فى تراثنا الإسلامى، ووجوب فهمها بالمعنى الأعم الأوسع الذى يُؤكد مبدأ العالمية فى الإسلام، فكما لله حدود شرعية جزئية فله أيضًا حدود كلية كونية على الأرض فى مقدمتها العدل والمساواة بين البشر، وتقرير الأخوّة بينهم، لأنهم جميعًا يلتقون فى أب وأم واحدة، وما بينهم من فروق واختلافات، فطرهم الله عليها، ليس إلا اختلافًا فى التنوع والتعارف والتآخى، وأن من يخرج منهم على حدود الله الكونية فيعبث بقيم العدالة والسلام والمساواة، فعلى الباقين أن يأخذوا على يديه وإلا تغرق سفينة الإنسانية بمن عليها من البشر. الأمام الطيب.. فى ركابه الوقار أن تأتى على ذكر الدعاة تجد لديه أنه آن الأوان لأن ننتقل من فقه الأقليات إلى فكر الاندماج والتعايش الإيجابيين، وأن نكون على تذكر دائم لأصول شريعتنا السمحة التى تُقرر أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، وأن التكليف بحَسَب الوُسْع، وأن دين الله يسر، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأنه لا تحريم مع الاضطرار، ولا وجوب مع العجز، والمؤمن مُلتزم أمام الله تعالى بوفاء العهود والعقود.. ولا دين لمن لا أمانة له.. وأن تأتى على ذِكر الآخر، فالآخر لدى الإمام الطيب فى نسيج العائلة وبابوية الفاتيكان، والناس إما أخ لك فى الدين أو نظير لك فى الإنسانية، ولكلٍّ حقوق وواجبات عليك، أقلها التراحم والتعارف والبّر والوفاء والقسط (العدل) لقوله تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين».. أن تذكر أمامه «العولمة» تجد حروفها لديه «العالمية» التى عبَّرَ عنها شيوخ الأزهر فى القرن الماضى بالزمالة العالمية أو التعارف كحل لانقسام العالم وتكريس الثنائيات الحادة التى تؤجج الصراع وتشعل الحروب. أن تكون مصريًا فشيخك شيخ الأزهر الشريف.. وعربيًا فإمامك الإمام الأكبر.. وعالميًا فمنزلته الدينية قيمة وقامة للمسلمين فى جميع بقاع الأرض.. الإمام الطيب.. الطيب.. المهاب الطيب.. طيب الله قوله ووسطيته وصفاءه وتصوفه وإسلامه الذى يُرحب أوسع الترحيب بأى جهد يُبذل من أجل إسعاد إنسان، أو رحمة بحيوان، أو حماية لنبات أو جماد. طيب التغريدة التى قال فيها: السكن فى الدنيا يحتاج إلى فكر والسكن فى الجنة يحتاج إلى ذِكر.. وقد شغلنا الفكر عن الذِكر.. فإذا مضت عليك لحظات لم تذكر الله فيها فبادر إلى إيقاظ قلبك ولو بتسبيحة أو استغفار.. فالغفلة داء وذِكر الله هو الدواء لغفلة القلب، فكلما طهر القلب رق، فإذا رق راق، وإذا راق ذاق، وإذا ذاق فاق، وإذا فاق اشتاق، وإذا اشتاق اجتهد، وإذا اجتهد هبت عليه نسائم الجنة.. جعلنا الله وإياكم من الذاكرين.. ولقد شرفت هذا الأسبوع بلقائه فاحتوانى السلام.. وفى عالم التغريدات أجدنى وحدى المحظوظة التى منحها الأديب الراحل نجيب محفوظ تغريداته الموحيّة المتفردة التى أطلق عليها «أحلام فترة النقاهة» وبلغت 497 حلمًا انطبعت على شاشة عقلى لأستدعيها.. أطرز بها الصفحات.. أدعم بها الفقرات.. أؤكد بها المعنى.. أنفّس ببعض من إيحاءاتها عما تجيش به الصدور.. • الحلم (6) «رن جرس التليفون وقال المتكلم: الشيخ محرم أستاذك يتكلم. فقلت بأدب وإجلال: أهلا أستاذى وسهلا.. قال: إنى قادم لزيارتك. رد قائلا: على الرحب والسِعة لم تمسسنى أى دهشة رغم أننى شاركت فى تشييع جنازته منذ حوالى ستين عاما وتتابعت علىّ ذكريات لا تنسى عن أستاذى القديم فى اللة والدين وما عُرف عنه من وسامة الوجه وأناقة الملبس، إضافة إلى شدته المتناهية فى معاملة التلاميذ وجاء الشيخ بجِبته وقفطانه الزاهيين وعمته المقلوظة وقال دون مقدمات: هناك عايشت العديد من الرواة والعلماء، ومن حوارى معهم عرفت أن بعض الدروس التى كنت ألقيها عليكم يحتاج إلى تصحيحات فدوّنت التصحيحات فى الورقة وجئتك بها. قال ذلك ثم وضع لفافة من الورق على الخوان وذهب.. السكة الحضيض.. ملايين الملايين أنفقت فى التجديد والتطوير منها 400 مليون عام 2012، و350 مليون فى الشهر الماضى، وكانت مصر ثانى دولة فى العالم توجد بها سكة حديد فأصبحت الآن فى السبنسة، وأحدث جرائمها بفعل جرار الوردية رقم 302 الذى راح ضحيته القطار رقم 911 و20 مواطنا وأربعين مصابًا ونهرًا من الدماء وبحرا من الدموع ووزيرا جديدا يعقد فى بيته، وذلك فى مسلسل نزيف الإهمال الذى قضى عام 2017 على 41 شخصا وإصابة 172 عندما اعتدى اكسبريس رقم 13 على مؤخرة القطار 571 بمدخل الاسكندرية، ومصرع 12 وإصابة 39 فى فبراير 2018 بالبحيرة، وإصابة 56 بالبدرشين فى 13 يوليو2018، و6 أشخاص ضحايا القطار 982 بأسوان فى 29 يوليو 2018.. وكانت دماء اليوم بسبب سائق أرعن ترك الجرار عندما تصاعدت الدماء إلى نافوخه ونزل يمسك بتلابيب زميله اللى داس له على طرف! • الحِلم (143) «سمعت صوتًا غير مألوف فمرقت بسرعة إلى فناء العمارة، فرأيت رجلا غريبا أثار فى نفسى الرِّيب، فناديت البواب ولفتُ نظره إلى الرجل الغريب، فأخبرنى بهدوء أنه موظف ويؤدى واجبه الرسمى وهو أخذ الزائد من الأفراد من المساكن المكتظة وينقله إلى مسكن يتسع له، فاعترضت قائلا: إنه يأخذ فردًا من أسرة ويخلف حزنًا وينقله على رغمه إلى مكان لا يعرفه أحد، فقال البواب بأن هذا هو القانون ونحن لا نملك حياله إلا الإذعان والتسليم». نرمين القويسنى.. عندما استشعرت قواها تنسحب انسحبت من محيطنا لتدخل قوقعتها الخاصة لفترات طويلة تخرج منها فى جولات تفقدية خاطفة سرعان ما تجد فيها حُسن قرارها بالغياب.. ويطول الغياب.. لكنها أبدًآ لم تغب فقد ظلت الغالية حاضرة فى الوجدان وإن لم تحضر بعدها الاجتماع والندوة والصالون وحفل الزفاف وعيد الميلاد.. عاشت فترتها الأخيرة مع ذكرياتها التى ارتبطت بأحداث الصحافة ونجوم الصحافة، وما كان بين سطور الصحافة.. كانت نرمين مؤسسة صحفية قائمة بذاتها، فمن مَلكاتها صياغة أهم المانشتات الجاذبة، وأكثر الأخبار طَزاجة، وأدق الأسرار خفية، وأمتع القصص واقعية، وأندر التصريحات إثارة، إلى جانب قدرتها الفائقة على الوصف التفصيلى والتصوير الدرامى، والتشخيص الكاريكاتيرى، والترجيح بنتائج تأتى مطابقة لذكائها اللّماح الذى تعقد فى رحابه المقارنات المعزّزة ببيانات السن والجنس وعوامل الارتباط وعدد الأنجال والدرجة العلمية والاتجاه السياسى وسنوات الاعتقال. كانت الراحلة كنزًا ومقصدًا وبوصلة وعونًا وظهيرًا وجهاز رادار للاستشعار عن بُعد لكل من عملت معه، وظلت طويلاً بمثابة الحكّاء للأديب الراحل إحسان عبدالقدوس الذى استقى من فوق لسانها العديد من قصصه ورواياته الخالدة، وكانت رحمها الله تشير لى عن إحداهن بقولها: تلك العين الثالثة فى رواية إحسان «أنف وثلاثة عيون»، وهذا الذى كان يزورنى فى مكتبى هو بطل «لن أعيش فى جلباب أبى» وكان يساعد والده التُربى فى مدافن العائلة، وتلك السيدة التى صافحتها أمامك بطلة «النظارة السوداء».. و..أذكر لنرمين القويسنى أنها كانت لسنين طويلة بمثابة الحاكمة الفعلية، واليد الطولى فى أهم المؤسسات الصحفية فى مصر بحكم منزلتها المرموقة كمديرة لمكتب رئيس مجلس الإدارة إحسان عبدالقدوس فى روزاليوسف وأخبار اليوم ثم الأهرام، لكنها خلال تلك المواقع التى يُطلب فيها ودها، لم تمنع أبدًا خيرًا، ولم تكن أبدًا مخلبًا ولا عائقًا ولا ضلعًا فى مؤامرة، ولا نصيرًا لظالم، ولا مشجعة لغير ذى موهبة.. وعندما رحل عبدالقدوس دفعها الوفاء لجمع تاريخه فى كتاب شامل يعد من أهم المراجع الصحفية الموثقة.. وهى التى عاصرت وزاملت وصادقت وتبنت أهم باقة من الفنانين اللامعين فى عالم الصحافة: حسن فؤاد ورجائى وحجازى وبهجت وزهدى وجاهين والليثى ورمسيس وحاكم وهبة وعبدالعال.. إلخ.. وفى ارتباطها الزوجى بالزميل جمال حمدى كانت لها معه صولات وجولات وصداقات حميمة على أرض اليمن قبل وبعد الانشقاق. فى قُربها قمنا معًا بأداء فريضة الحج، ومازلت أذكر طوافنا بالكعبة الشريفة وحرارة كل منا فوق الأربعين نردد لآخر الأنفاس: اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم فإنك أنت الله الأعز الأكرم اللهم أنت السلام ومنك السلام حيينا ربنا بالسلام. .. اللهم اسكنها فسيح جناتك وارزقها شفاعة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.. الحكيم أبًا يقول: «جلس معى يومًا محمد حسنين هيكل وكان رئيسا لتحرير الأهرام مع الكاتب جلال الدين الحمامصى، وجاء ذِكر ابنى إسماعيل، وقال هيكل: «هل تعرف أن ابنك يعزف فى الأندية الليلية؟ قلت له: إن هذا من عجائب الدهر، فحين كنت شابًا كان أبى وهو قاض يريدنى أن أدرس الثانوية لأكون قاضيًا محترفًا، وفعلا دخلت الحقوق ولكنى بعد تخرجى وقفت وقلت لأبى «أنا لا أريد أن أكون قاضيًا، وحين سألنى: وماذا تريد أن تكون لم أستطع أن أقول له إننى أريد أن أدرس الفن لأن كلمة (الفن) كانت سيئة السمعة، فقلت له أريد أن أدرس الأدب واستدركت قبل أن يهاجم الأدب: أريد أن أكون مثل لطفى السيد، لأننى أعرف أن أبى صديقه ولطفى السيد أيضًا من دارسى القانون، لكن أبى قال لى: وهل أَفلَحَ السيد حتى تختار طريقه؟! قلت لهيكل هكذا التاريخ يعيد نفسه، كان أبى يريد منى أن أكون قاضيًا واخترت أنا طريق الفن، كذلك كنت أريد من ابنى إسماعيل أن يكون مهندسًا محترمًا لكنه اختار طريق الفن على الرغم منى.. وسألنى هيكل: وهل رأيته وهو يعزف؟ قلت: كيف أراه وأنا أنام فى الحادية عشرة مساء بينما هو يبدأ العزف فى هذا الموعد حتى الصباح!!.. وهنا اقترح علىّ الحمامصى أن أذهب ليلة لأشاهد ابنى واكتب مقالا عنه، وتحمس هيكل للفكرة وأخذ يزينها لى وأخيرًا قال لى: هل تعرف كم سأعطيك ثمنًا لهذا المقال، سوف أدفع لك خمسة آلاف جنيه! ولم أصدق لأن هذا المبلغ فى ذلك الوقت 1970 كان مبلغًا كبيرا جدًا، فقلت له معقول هذا الرقم فى مقال؟ قال لى: أنا رجل تاجر وعارف كم يستحق هذا المقال».. ولم أستطع أن أقاوم الإغراء خمسة آلاف جنيه فى مقال واحد لكن ماذا أقول فيه؟ وكيف أذهب إلى أندية ليلية؟ وسَهَّلَ هيكل المسألة بقوله: «لن تذهب وحدك سيصاحبك الفنان صلاح طاهر والدكتور يوسف إدريس».. وذهب الحَكيم فى مارس 1970 إلى حديقة الميريلاند بمصر الجديدة ليرى ابنه اسماعيل عازفًا للمرة الأولى والأخيرة، ليقول بعدها إسماعيل «جاء والدى وجلس ورائى وأنا أعزف، وكنت خلال العزف أراقبه وأتأمله.. كانت الدموع تذرف سطورًا من عينيه»، ووجد الحكيم أنه «لا قيمة لمقال أكتبه عن ابنى فلأجعله مقالا عن صراع الأجيال» وذكر عن إسماعيل يومًا: «كانت زوجتى تجلس مع إسماعيل تحل له مشاكله ولم تضع فى الاعتبار أنه فنان مثلى وربما يستفيد من خبراتى، ولارتباطه بها كان يُجبر أمه على حضور الحفل الافتتاحى ليُلقى عليها نظراته الأولى كما لو كان يستمد منها القوة ثم ينطلق، وإذا لم تحضر الحفل يعتذر هو عنه.. لقد كان الارتباط بينهما قويًا جدًا، وكان الارتباط بينى وبينه ضعيفًا للغاية، لذلك إذا ما عجزت أمه عن حل إحدى مشاكله كانت النتيجة أن يقفا مكتوفى الأيدى فى الوقت الذى لا أعرف أى شىء، وربما كان فى استطاعتى الحل بسهولة، وعلى سبيل المثال كان بحاجة لمبلغ ألف جنيه خلال ساعات لشراء آلة موسيقية جديدة يريد استخدامها طوال الموسم فى أحد الأماكن السياحية فذهب لأمه يطلب منها المبلغ قبل أن يغلق المحل أبوابه بساعات قليلة، ولم يكن المبلغ فى حوزتها وفشلت محاولاتها فى الحصول عليه، وتكتما الأمر عنى، وكان إسماعيل حزينًا وكذلك أمه، وقرر أن يعتذر عن العزف طوال الموسم وذهب لينام بعد هذا القرار، كذلك ذهبت أمه حزينة إلى فراشها فأصيبت بشلل أقعدها عن الحركة وظلت هكذا حتى ماتت»! • الحلم (11) «فى ظل نخلة على شاطئ النيل استلقت على ظهرها امرأة فارعة الطول ريانة الجسد. وكشفت عن صدرها ونادت ليزحف نحوها أطفال لا يحصرهم العدُّ. وتزاحموا على ثدييها ورضعوا بشراهة غير معهودة وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى، وبدا أن الأمر أفل زمامه وتمرد على كل تنظيم. وخُيِّل إلىّ أن الحال تقتضى التنبيه أو الاستغاثة ولكن الناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل. وحاولت النداء ولكن الصوت لم يخرج من فمى وأطبق على صدرى ضيق شديد. أما الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدة على عظم. ولما يَئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحولت بينهم إلى هيكل عظمى. وشعرت بأنه كان يجب أن أفعل شيئًا أكثر من النداء الذى لم يخرج من فمى وأذهلنى أن الأطفال بعد يأس من اللبن واللحم التحموا فى معركة وحشية فسالت دماؤهم وتمزقت لحومهم. ولمحنى بعض منهم فأقبلوا نحوى أنا لعمل المستحيل فى رحاب الرعب الشامل». أربعون يومًا قضاها العقاد فى السودان تخوفًا من وصول القوات النازية إلى القاهرة، بعدما أظهر عداءه الشديد لهتلر فى كتابه «هتلر فى الميزان».. كانت مراسلات العقاد فى الخرطوم على العنوان «محلات إخوان يحيى» وهم من أبناء عمومته الذين يعملون بالتجارة، وقبل السفر حرق كاتبنا كل أوراقه الخاصة التى كانت قد تجمعت لديه حتى تلك السنة 1942، أما مكتبته الضخمة فقد كلف أصدقاءه ببيع كل ما يمكن بيعه من كتبها وأن يرسلوا إليه ما يتوافر من البيع لينفق على نفسه طيلة بقائه فى الغربة، وما أن سمعت بوصوله الدوائر الثقافية فى السودان حتى أقيمت له حفلات التكريم، وظل محاطًا بأجمل العواطف التى خرجت صادقة من قلوب السودانيين، وفى الحفل الذى أقامه الشباب السودانى بدار الخريجين بأم درمان قُرأت قصيدة العقاد «ليلة الوداع» فصاحبتها دموع العقاد وشاركه فى البكاء كل الموجودين: ولما تقضى الليل إلا أقله وحان التنائى جئت بالدمع باكيا فأقبل يرعانى ويبكى، وربما بكى الطفل الباكى وإن كان لاهيا وأسلمت كفى كفه فأعادها وقلبى! فهلا أرجع القلب ثانيا • الحلم (29) «دخلت حجرة الوزير ومعى بيان مكتوب على الآلة الكاتبة بأسماء الموظفين المرشحين للترقية. اسمى بينهم وواضح أن الوزير يخصنى بالرعاية. وقّع الوزير البيان فى أعلاه وذهبت به إلى إدارة المستخدمين لتنفيذه. اتجهت إلى الموظف المختص وكانت فتاة شابة وجميلة. نظرت فى البيان ولاحظت أن الوزير وضع إمضاءه فى أعلاه وأنه يجب أن يضعه فى أسفله. وإلا فإنها لن تستطيع تنفيذ أمر الترقية أو على الموظفين المسجلين فى أعلاه. اغتظت وشكوت ما نلاقى من الروتين ولكنها أصرت على موقفها فحملتُ البيان من جديد إلى الوزير فوقّع اسمه فى الموضع الصحيح وهو يضحك. ورجعت إلى الفتاة وسلمتها البيان. وكانت تجلس على يمين مكتبها موظفة صديقة معروفة بالمرح فدافعت عن تصرف صديقتها قائلة إنها تضن بالترقية على الموظفين العزّاب وترى أن المتزوجين أولى بها. وتظاهرت الموظفة بأنها تضايقت من إذاعة هذا السر. ولما قابلتنى الموظفة المرحة بعد ذلك سألتنى عن رأيى فى موظفة المستخدمين فصارحتها بأنها أعجبتنى، فاقترحت أن تبلغها إعجابى كمقدمة لجمع راسين فى الحلال. فطلبت مهلة للتفكير، فقالت إننى لم تعد شابا وأن عمرك يضيع فى التفكير وأصرت على إبلاغها فاستسلمت ولم أرفض..». السونامى الذى أراد أن يغرق الحس المرهف والذوق الرفيع والفن الأصيل، ويأتى على الأخضر واليابس فى عالم السينما لنعيش أيامًا مغبرة مع أجواء أمشير من جراء زلاّت تلك الشخصية المريضة التى بلغ انتهاكها للقيم وتلويث صورة الفن فى بلدنا حد الجنون. ومن الصفاقة والبجاحة لصاحب الجلد السميك إلصاقه اللوم على الشرطة التى لم تلق القبض بعد على مروجى لقطاته المشينة، والكارثة أنه فى خضم وضعه المتدنى يجد من يدافع عنه بدعوى الحرية الشخصية وسبق الإصرار والترصد لما خلف نواياه الخبيثة التى يسلحها بأوراق الزواج العرفى للعشرات الموعودات بأدوار فى أفلامه بواقعيتها المهترئة، والأدهى والأمرّ أن صاحبنا وهو ليس بصاحب إلا لمن هم على شاكلته قوله المستهجن بأن فضائحه قد تفشت فجأة بسبب إعلانه عن معارضته للتعديلات الدستورية!! ولا والنبى!! تعارض ترفض لا وزن لرأيك.. تجيز أو لا تُجيز من أنت فى عداد الرجال المحترمين؟!.. تطلق لحيتك أو تنزعها قد سقط القناع عن الوجه الخادع. تهادنك زوجتك أو تطردك جنت على نفسها براقش.. تصور مشهدًا ثوريًا وبعدها مشاهد خارجة فقد لطخت جميع أعمالك بالطين.. لا وزن لرأيك ولا حصانة لوضعك ولا أسف لضحاياك، وإن كنت قد نجحت بامتياز فى إصابتنا بالاكتئاب وزرعت فى قلوبنا بذور الظن والشك والاتهام فى عالم فتح لك أبوابه ببراءة فسرقت منه البراءة.. وحمدًا لله أنك فررت.. غادرت بعدما غدرت!! • الحلم (369) «سمعت صوتا آتيًا من الغيب يقول إنهم فى العالم الآخر بدأوا يشمون رائحة كريهة صادرة من عالمنا، فنظر مستطلعًا فوجد السبب فى الفساد المستفحل، فسألته: وماذا ستفعل؟ فقال: نحن نبدأ بالوعظ والإرشاد وإذا لم يُجْدِ ذلك عمدنا كارهين إلى وسائل أخرى». نزار قبانى سبتمبر 1996: «أعرف قديمى جيدًا وأعرف العروض والصرف والنحو لأننى لا أعوم فى الفراغ لأنه من لا قديم له لا جديد له، أما عن حفظ الشِعر فهو ضد الشعر، والذى يحفظ فى رأسه 500000 بيت من الشعر لا يترك ثقبا واحدًا يدخل منه الهواء وضوء الشمس، وعلى الشاعر الذى يريد أن يكون جديدًا أن ينسى لا أن يتذكر، ولقد وجدت جميع من يحفظون الشعر كثيرًا يتوقفون عند حدود معينة ويلوكون ما يحفظونه، وأنا لا أريد أن أكون متنبيًا ثانيًا ولا أبو تمام ولا بحترى ولا حطيئة ولا ابن الرومى ولكن أريد أن أشق طريقى كنزار قبانى، وإننى فى الشعر لا آباء لى فلقد ألقيت آبائى فى الجحيم، وكل شاعر له مرحلة، وعندما يسألوننى متى أستقيل من الشِعر، أجيب حين يطفئون عليّ الأنوار فى المسرح، فليس هناك شعر بالاغتصاب.. حين أشعر بأن الجمهور لا يريدنى، أضع معطفى على كتفى وانسحب من الباب الخلفى». • الحلم (209) «وجدتنى مع الرئيس عبدالناصر فى حديقة صغيرة وهو يقول: لعلك تتساءل لماذا قلَّت مقابلاتنا، فأجبته بالإيجاب. فقال: كلما شاورتك فى أمر جاءت مشورتك بالاختلاف كليًا أو جزئيًا، فخفت أن تتأثر صداقتى لك بهذا الموقف. فقلت: أما أنا فلن تتأثر صداقتى لك مهما اختلفنا». عبداللطيف البغدادى فى 96: «حاولت أمريكا شراء عبدالناصر بالأموال، فقامت المخابرات الأمريكية بإعطاء حسن التهامى ثلاثة ملايين دولار لتوصيلها إلى عبدالناصر، فرفضها فى البداية، ثم عاد وتساءل: ولماذا أرفضها؟ وبعد ذلك طلب من حسن التهامى أن يتولى عملية تشييد برج القاهرة، ولم أكن أعرف شيئا عن هذه القصة إلا عندما أصبحت وزيرًا للخزانة عام 1961 ولم أجد ميزانية خاصة بالبرج الذى كان يُبنى قبل أن أصبح مسئولا عن الخزانة، فتساءلت: من أين يموَّل؟ وعرفت القصة التى قيل خطأ أن الممول كان أحد الملوك العرب، وقد أطلق عبدالناصر على البرج «وقف الأمريكان». • الحلم (459) «رأيتنى مع مجموعة من الأصدقاء نتسابق فوق متون جيادنا حتى بلغنا الميدان فتفرقنا وزدنا من سرعتنا، وإذا بجوادى يرتفع عن الأرض رويدًا رويدًا حتى استوى تمثالا من البرونز على ارتفاع شاهق». على أمين ونصفه الآخر: «عرفته من بطن أمى! ولدتنا أمنا توأمين، ولد هو أولا وولدت بعده بخمس دقائق، وكنت أداعبه فى طفولتنا، وأقول له: إننى كنت أكثر منك أدبا! لقد قلت لك تفضل أنت أولا تخرج إلى الدنيا قبلى، وكانت أمنا حريصة أن نرتدى لونا واحدًا من الملابس، فكان من الصعب التمييز بيننا، وقد ضاق ناظر مدرسة دمياط الابتدائية بتشابهنا العجيب فوضعنى فى فصل ووضع (على) فى فصل آخر، وكان إذا ضربه هناك بكيت أنا هنا.. وعندما كبرنا كنت أذهب وحدى إلى الترزى أختار قماشا لبذلتى ويذهب على إلى ترزى آخر ويختار قماشا ثم نكتشف بعدها أننا اخترنا نفس اللون ونفس القماش! وحدث بعد أن أصبحنا شبابًا أن كنا نسير على شاطئ سيدى بشر وإذا بفتاة تسير فى مقابلتنا تسقط على الأرض مُغمى عليها فلما أفاقت قالت إنها رأت واحدًا اثنين!.. وحدث أن تزوج على قبلى، وكانت زوجته تطلبه فى مكتبه بالتليفون ويبدأ هو بالمحادثة وإذا كان مشغولا أعطانى السماعة وأتم المحادثة دون أن تعرف زوجته أننى لست زوجها! وكان يبدأ المقال وأتمه دون أن يشعر القارئ، وكنت فى الخمسينيات أدرس مادة الفن الصحفى لطلبة قسم الصحافة بكلية الاداب، ثم حدث أن سافرت إلى أمريكا وطلبت إلى أخى أن يلقى المحاضرات بدلا منى، وذهب على وألقى المحاضرة ولم يكتشف الطلبة أن الأستاذ ليس هو الأستاذ إلا بعد أن أخبرهم بالحقيقة فى نهاية المحاضرة!».. ملحوظة: كل ما ذكره مصطفى أمين عن مدى التشابه العجيب بينه وبين توأمه على أمين عاصرته فى سنوات عملى الأولى فى أخبار اليوم، لكنى استطعت بعد مآزق كثير التفرقة بينهما تبعًا لدرجة حرارة مكتب كل منهما، فمصطفى بك لا يفتح التكييف البارد عادة أما على بك فيعيش فى جو ألاسكا بسبب إصابته بالنقرس كما يقول، إلى جانب أن مصطفى بك يلقاك بترحاب وتهليل ثم يجلدك تأنيبًا، أما على بك فإنه يثور ويفور ويهبط على مافيش وربما نسى سبب غضبته فى الحال». • الحلم (426) «رأيتنى من المقربين من حاكم الجنوب فى مصر، وكان حديثه يدور حول الجماعات المتناحرة على شاطئ النيل، ويومًا قال لى إن النيل جاءه فى المنام وقال له إنه يعهد إليه بتوحيد الجماعات المتناحرة فى جماعة واحدة متعاونة، وأن يكون مَلِكًا عليها يقوم بتوزيع المياه بينها بالعدل». فى مسيرة حياة الناقد صلاح فضل عندما كان يعمل أستاذا محاضرا فى جامعات المكسيك: «امتدت السهرة لمنتصف الليل بعد العشاء فى منزل السفير صلاح شعراوى وكان الحوار مع إحسان عبدالقدوس الذى حكى لنا عن تربيته الشخصية فى حضن جده القاضى الشرعى الذى انتزعه وحرمه من حنان الأم، وكيف أدمت وجدانه فى طفولته تلك المطاعن التى وُجهت إليها بينما هى فى تقديره أعظم امرأة فى العالم.. وأدركتُ حينئذ أن تركيز إحسان على تحرير المرأة كان قضية حياته الشخصية ومحور إبداعه، لكنه كان يغيظنى عندما أظهر لى استهانته الشديدة بالنقد بسبب بسيط فى تقديره، وهو أن أعماله من السعة والخصوبة بحيث لا يقدر أى ناقد أن يعكف طيلة عمره لدراستها وتحليلها، فرددت عليه القول بأن طبيب التحليل يكتفى ببضعة سنتيمترات من الدم كى يعرف كل مكوناته وأمراضه، فأجابني: لم أكن أتصور أن النقاد قد أصبحوا مصّاصى دماء!!». • الحلم (474) «رأيتنى أستقبل فى بيتى الأستاذ (غ) الناقد الكبير، وهو رغم ماركسيته إلا أن نقده اتسم بالموضوعية، ولذلك كان الناقد الماركسى الوحيد الذى أنصف أدباء غير ماركسيين، وقلت له إن بعض الأصدقاء حدثنى عن صوته العذب وعِلمه بالغناء قديمه وحديثه، ورجوته أن يسمعنى صوته، وراح يغنى (آه يا سلام آه، زاد وجدى آه، والصبر طال من غير أمل، امتى الجميل يصنع جميل) فطربت طربًا عظيمًا وأمضينا الليل متنقلين بين الأدب والغناء». • الحلم (387) «وجدتنى مع بعض الحرافيش فى مسكن المرحوم الشاعر (ص) ومعه الفنانة المرحومة (س) فتصافحنا بحرارة وسألته: هل أنت تؤلف لها دراما شعرية؟ فقال: إن الذى يجمعنى بها الآن الانتحار الذى ارتكبناه ضيقا بالحياة وأخذنا نتسامر حتى الهزيع الأخير من الليل، وغادرنا المسكن، أما الشاعر والفنانة فسارا فى الشارع الطويل الخالى ونحن فى الناحية المضادة والحزن يملأ جوانحنا». الحمار التاريخى: «تمثل تصرفات الحمار معظم التراث المرح فى مختلف أركان العالم، وأكثر الحمير التاريخية شهرة (حمار جحا)، وأكثرها غموضًا حمار الحاكم بأمر الله الفاطمى، الذى خرج بصاحبه الحاكم إلى حلوان وعاد بدونه إلى القاهرة، ولايزال للحاكم أتباع ينتظرون عودته إلى اليوم، وأشهر حمار أدبى فى العالم هو الخاص بالإسبانى خوان رامون فيمينيث (نوبل 1956) فى مؤلفه (حمارى وأنا) وأشهر حمار أدبى عربى (حمار توفيق الحكيم)، والحمار الأخطر هو الذى حمل السيدة العذراء وابنها المسيح طفلا، ومعهما يوسف النجار، كى يخترقوا الحواجز من الناصرة الفلسطينية إلى داخل صعيد مصر فى مسار رحلة العائلة المقدسة هربًا من اليهود، حيث تركوا آثارا ذات شأن فى المطرية (شجرة مريم) وأسيوط (الدير المحرق جبل العذراء)».. • الحلم (328) «رأيتنى أطل من النافذة فأرى جميع الحرافيش أمام الباب فأنزل وأُسلِّم عليهم وأدعوهم إلى الفيشاوى، وهناك أذهب لأعد لهم العشاء، ولما أرجع أجد المكان خاليًا، فسألت النادل: أين ذهب الأصدقاء؟ فأجابني: إننى جئت وحدى». لمزيد من مقالات سناء البيسى