لم يكن قرار دونالد ترامب بإرسال إشارات دعمٍ غير مُعلن للهجوم الإسرائيلى على إيران فى البداية مجرد تذبذب فى السياسة الخارجية لرئيس يُراوغ خصومه وحلفاءه على حدٍّ سواء، بل كان لحظة فارقة كشفت تحوّله من معارضٍ شرس لأىِّ تدخلٍ عسكرىٍّ جديد فى الشرق الأوسط، إلى قائدٍ مُستعد للمجازفة، ولو جزئيًا، بحربٍ قد تُعيد رسم خرائط منطقة لا تتحمَّل المزيدَ من المقامرات والمغامرات. فهل تُريد واشنطنإيران بلا عمائم وبلا حرسٍ ثورىٍّ، ولهذا تُبارك وتدعم الحرب على إيران، ولكن هل إسقاط النظام يُمكن أن يتم بهذه السهولة حتى لو ظهر ولى العهد السابق لشاه إيران فى رسائل وثوب النضال ضد آى الله؟ وما هى الكلفة للانهيار على الإقليم ودول العالم خاصة أسواق النفط والأسعار والأوراق المالية؟ لأشهرٍ طويلة، لعب ترامب لعبة التوازن؛ عرض التفاوض على طهران من موقع المنتصر، وأوفد مبعوثه المقرَّب ستيف ويتكوف ليصوغ مسارًا دبلوماسيًا مع المرشد الإيرانى، أرفقه برسالة شخصية حملت بين سطورها وعودًا بالاحترام وتجنُّب الحرب، لكن خلف هذه الرسالة، كانت ماكينة الضغط تعمل بأقصى طاقتها: عقوبات متصاعدة، دعم لوجستى لإسرائيل، وتجهيز استخباراتى أمريكى لأىِّ طارئٍ، بدا أن ترامب يُبقى على النار تحت الطاولة، بينما يتظاهر بأنّ كل ما يُريده هو اتفاق. التحوُّل الحقيقى لم يكن قرارًا بقدر ما كان انزلاقًا تدريجيًا؛ الهجوم الإسرائيلى الذى بدأ دون إذنٍ رسمىٍّ من البيت الأبيض، لكنه جرى على وقع صمتٍ أمريكى مدروس، فتح أمام ترامب فرصةً نادرة: أن يظل ظاهرًا بمظهر غير المتورط، بينما يُشاهد نتائج أوَّلية ناجحة لعملية لطالما تردَّد فى تبنّيها، ولم يكن مُفاجئًا أن يتحوَّل هذا الصمت إلى دعمٍ استخباراتىٍّ غير مُعلن، ثم إلى نقاشٍ داخلىٍّ حول تزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود فى الجو، وربما لاحقًا، بالمشاركة المباشرة فى قصف منشأة فوردو النووية. الواقع أن الحرب لم تبدأ بقرارٍ رسمىٍّ، بل بدأت بفقدان السيطرة على التفاصيل بين مارس ويونيو، فشلت المفاوضات السرية التى قادها ويتكوف، ورفض خامنئى العرض الأمريكى فى الوقت ذاته، كشفت الاستخبارات الأمريكية عن مؤشرات مؤكَّدة على استعداد نتنياهو لتنفيذ ضربة أُحادية، حتى لو كلَّفه ذلك خلافًا مع واشنطن. لم يكن أمام ترامب حينها سوى أن يُقرِّر: إما الوقوف فى وجه إسرائيل، أو اللحاق بها دون أن يبدو تابعًا اختار الحل الوسط، لكنه، وككل الحلول الوسط فى السياسة، ليس إلا بوابة لقرارٍ أكبر. هنا لم تعد الحرب خيارًا افتراضيًا.. الجدل فى كامب ديفيد لم يكن حول «هل نتدخَّل»، بل حول «كيف وأين وكم»؛ خرائط نُشرت داخل القاعات الرئاسية، وسيناريوهات نُقشت على طاولات مغلقة، وخيارات تمتد من التزويد اللوجستى إلى الضربات المشتركة، وكلها تُؤكِّد أن أمريكا باتت حاضرةً عمليًا، حتى لو لم تصدر بيانًا رسميًا. لكن أخطر ما فى هذا التحوُّل، ليس القصف المُحتمل، بل أن ترامب نفسه بات يُقنع نفسه بأن الضربة، إن حدثت، لن تكون حربًا، بل مجرد «عملية استباقية» لتأمين الردع. هذا المنطق هو تحديدًا ما أوقع رؤساء سابقين فى حروبٍ لم يستطيعوا الخروج منها، من فيتنام إلى العراق، فحين تُفتح أبواب النار باسم التكتيك، لا تُغلق بسهولة باسم السياسة. ترامب لا يثق بالإيرانيين، وقد عبَّر عن ذلك صراحةً فى لقاءاته الأخيرة، بل وشكَّك فى تقارير مديرة استخباراته تولسى غابارد، حين قالت إن إيران لا تسعى حاليًا لصُنع سلاح نووى، قال عبارته الشهيرة: «لا يهم ما قالته أعتقد أنهم قريبون جدًا»، هذه القناعة الشخصية، مهما كانت غير مدعومة استخباراتيًا، بدأت تُؤثِّر مباشرةً على القرار العسكرى، فى واحدةٍ من أخطر لحظات التداخل بين الرؤية الشخصية وصياغة الاستراتيجية. كان توماس فريدمان فى نيويورك تايمز من أوائل من دقُّوا ناقوس الخطر، مُحذرًا من أن إسرائيل اليوم لا تتحرك بدافع الأمن فقط، بل بدافعٍ أيديولوجى يرى فى إيران عدوًا وجوديًا، لا سياسيًا، هذه الرؤية لا يُمكن احتواؤها بإمدادات وقود أو معلومات استخباراتية؛ لأنها تنتمى إلى عقلية ترى العالم معركةً دائمةً لا يُمكن التراجع عنها. المفارقة الأخطر التى يُشير إليها فريدمان هى أن واشنطن، من خلال ترامب أو غيره، ما زالت تتعامل مع إسرائيل كأنها الشريك «العاقل» الذى سيتوقَّف عند الخط الأحمر، لكن فريدمان يصرّ: «إسرائيل الجديدة لم تعد تُصغى»، بل تتحرك بمنطق «نفعل ما نراه مناسبًا ثم نفرض الأمر الواقع»، هذا التحوُّل، الذى تُغذيه حكومة يمينية متطرفة لا تُؤمن بالتوازنات، يعنى أن أى دعمٍ غير مشروطٍ من واشنطن، حتى لو كان غير مباشر، هو بمثابة صك مفتوح لمغامرة قد تجرّ أمريكا لحرب لم تُخطط لها أصلًا. وفى واحدةٍ من أكثر لحظاته صراحةً، قال فريدمان إن ما يخشاه ليس الضربة نفسها، بل اللحظة التى تليها؛ لحظة انهيار رد الفعل الإيرانى فى ساحات متعددة: من لبنان إلى العراق، ومن الخليج إلى الداخل الأمريكى السيبرانى. لحظة لن يكون فيها مجال للتمييز بين مَن بدأ ومَن ردَّ، لأن الرواية ستكتبها الفوضى، لا البيانات الرسمية. فى تلك اللحظة، لن يُذكر ترامب كمفاوضٍ أو كقائدٍ حذر، بل كمن أدار وجهه للحظة واحدة، فاشتعلت المنطقة من خلفه. المنطقة كلها الآن واقفة على الحافة إيران، وإن كانت لا تملك نفس القدرة الإسرائيلية على الاختراق، إلا أنها تمتلك شبكة إقليمية كاملة من الحلفاء والوكلاء. أى ضربة لفوردو قد تعنى هجمات على القواعد الأمريكية فى الخليج، وقد تعنى أيضًا إغلاق مضيق هرمز، أو تفجيرات فى العمق الإسرائيلى، أو عمليات سيبرانية ضد واشنطن نفسها. ومع ذلك، فإن ترامب، المحاط بفريق أكثر ولاءً من الخبرة، لا يبدو متوجسًا كما ينبغى وزير دفاعه، مستشاره للأمن القومى، وحتى رئيس أركانه، جميعهم أقرب إلى تأييد الضربات ممن كانوا فى ولايته الأولى، غابت الأصوات التى كانت تُقيِّد حركته وأفكاره؛ ماتيس وتيلرسون رحلوا، وجاء مكانهم رجال لا يرون ضيرًا فى التصعيد، طالما أنه لا يتحوَّل إلى حرب مفتوحة. فى النهاية، يبدو أن ترامب لم يعد يطرح سؤال: «هل نذهب إلى الحرب؟»، بل «كيف نربحها بأقل تكلفة؟» وهذا السؤال بالذات هو ما يجعل الخطر أكبر؛ لأنه يفترض أن التكلفة محسوبة، وأن الرد الإيرانى سيكون محدودًا، وأن المنطقة قادرة على امتصاص صدمة جديدة، وكأنها لم تخرج للتو من مآسى غزة وسوريا واليمن ولبنان، إنها أبواب جحيم إذا فتحت لا أحد يعرف من أين أو متى ستغلق.