في بلدنا جدل يدور حول الإبداع الفني بمختلف ألوانه. وخوف يسكن البعض من رغبة لدي بعض آخر في محاصرة المبدعين وتقييد الفنون, من الرسم والنحت والتصوير إلي الغناء والتمثيل والموسيقي. ولا بد من حسم هذا الجدل. وحسمه لا يكون بالترويع أو الغضب أو التعصب, وإنما بالاحتكام إلي البديهيات. وأبسط تلك البديهيات أن الأمم التي تجيز التعدي علي فنانيها ومبدعيها أو تتساهل مع من يحط من شأنهم إنما تقضي علي نفسها وتحط من شأنها بين الأمم. والغريب أن تصدر في مصر علي وجه التحديد دعوات اشتطت ضد رموز إبداعية قديمة ومعاصرة تتمني دول كثيرة حولنا لو كان لديها1% منها فقط. لكن البديهيات تقضي أيضا بضرورة التمييز بين فن وفن, نحت ونحت, رسم ورسم, غناء وغناء, وموسيقي وموسيقي, خاصة وأن الحابل قد اختلط بالنابل في كثير من هذه المجالات. تمييز يفرق بين من يقدم إبداعا حقيقيا لا يجوز التهجم عليه وأدعياء فن يسيئون إلي الفن ورسالته ويجب أن تمتد موجة التطهير إليهم. فالأصل في الفنون أن تخاطب الوجدان وترتقي بالأحاسيس وتصقل التفكير ليكون الوطن أفضل ومواطنيه أعقل. أما أدعياء الفن الذين يقدمون ابتذالا وإسفافا فخطر علي الإبداع يجب درأه لأنهم يخاطبون الغرائز وهذا خطأ. كما أنهم يثيرون حفيظة المجتمع وفيه بعض المتحجرين الذين يرون أن علاج أصبع يقتضي بتر الذراع بأكمله وأن وقف أدعياء الفن يتطلب تجريم الفن كله. وهذا خطأ آخر أفدح هو الذي أدي إلي تلك الإدعاءات التي بتنا نسمعها ونشمئز منها وهي تحتقر الإبداع وتقذف المبدعين بتهم ملفقة بحجة أن إبداعاتهم مخالفة للدين بينما الدين من ذلك براء لأن موقفه واضح من كل الفنون: حلالها حلال وحرامها حرام. والمصريون الذين قدموا إبداعا فنيا رفيعا لا اختلاف عليه عديدون في طليعتهم صرح موسيقي شامخ تحل ذكري رحيله الحادية والثلاثون بعد أيام وهو الأستاذ رياض السنباطي رحمة الله عليه, الذي توفي في التاسع من سبتمبر.1981 فقد كان موسيقيا فذا. فريدا في إبداعه. يرتقي بسيرته ومسيرته ليجسد نموذج الإبداع المسئول الذي نتمناه. فالإنتاج الراقي والعطاء السخي اللذان قدمهما يقطعان بأن الموسيقي والفنون ليست بدعا أو ضلالة وإنما جواهر وأصالة. فقد ارتقت موسيقي السنباطي بوجدان أمة بأكملها وألهمت طاقات الملايين بل مليارات عاشوا خلال حياته أو تعرفوا علي ما أبدعه بعد رحيله سواء في مصر أو الوطن العربي أو عبر العالم. وأنا لا أستطيع أن أقيم عطاء هذا الرجل الرائع بمعايير علوم الموسيقي لأني وإن كنت أحبها إلا أني لست متخصصا فيها. كما أني لا أكتب هنا تأريخا لحياته. وإنما أكتب عنه لأني رأيت أن الاقتباس من عطائه وسط هذا الجدل المفتعل حول الفن والإبداع ضروري. فما قدمه بقي إلي الآن علامة لا تنسي تؤكد أنه كان مبدعا عملاقا ونموذجا لا يمكن الاختلاف عليه ومعيارا للفن الراقي الذي يحترم العقل ويناشد الضمير. فمن يسمعه وهو يمسك بعوده ليشدو بألحانه الدينية والوطنية والعاطفية لا بد أن يتذكر صاحب إحياء علوم الدين حجة الإسلام أبو حامد الغزالي وهو يرد علي الغلاة والمتنطعين بقوله من لم يهزه العود وأوتاره والروض وأزهاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج. وقريب من هذا المعني يحكي الدكتور محمد عمارة في كتابه البديع الغناء والموسيقي حلال أم حرام عن الشيخ حسن العطار الذي أصبح شيخا للأزهر في1830 وحتي وفاته في1835 أنه كان مولعا بالموسيقي يتحلي بالطرافة في تعليقاته ومن بينها قوله إن من لم يتأثر بالأشعار وهي تتلي بلسان الأوتار علي شطوط الأنهار في ظلال الأشجار فذلك جلف حمار!!. وصفوة القول أن الموسيقي والفنون الأصل فيهما الإباحة, حلالهما حلال وحرامهما حرام. فيا من تحبون مصر لا تفتعلوا معركة مع المبدعين بل ارعوهم. بلدنا فيه كنوز بشرية لا يختلف عليها أحد نحتفل هذا الشهر بذكري واحد من أهمهم. إنه الأستاذ رياض السنباطي الذي جعل الموسيقي بإبداعاته تتخطي الاستمتاع الحسي لتصل إلي مناطق عميقة في نفس الإنسان لا يمكن أن تصل إليها الحواس. فقد تعامل مع الموسيقي بروح المتصوفين وعقلية المجددين وعطاء الجادين. لم يثر فينا الغرائز وإنما سما كل مرة أبدع فيها بأحاسيسنا. وعبقري مثله تستحق أعماله العظيمة التي قدمها علي مدي يزيد علي نصف قرن العناية التي تليق بها. فقد كانت وستظل فخرا للوطن وسبيلا للنهضة من جديد بالذوق العام بعد أن تعرض لانتكاسة طيلة سنوات التجريف الثلاثين الماضية. رحمه الله. كان صاحب إبداع لا يختلف عليه أحد. حول بعبقريته ودأبه الموسيقي من نغم نتلقاه بحواسنا إلي رسالة تتغلغل إلي نسيج أرواحنا. خاطب الوجدان قبل أن يخاطب الأذن فساعد الإنسان علي أن يكتشف في نفسه مكنون النقاء والروحانية والشفافية التي حباه الله بها. طيب الله ثراه, وأصلح فهم من لم يقتنع بعد بقيمة الإبداع وأهمية المبدعين. المزيد من مقالات أبراهيم عرفات