لا شك أن الدورة الخمسين لمعرض القاهرة الدولى للكتاب هى من أنجح الدورات فى تاريخ هذا المعرض الذى أكمل أعوامه الخمسين، وسر تألق الحدث هذه المرة أنه احتفال باليوبيل الذهبى لإنشاء المعرض للمرة الأولى فى عهد وزير الثقافة العظيم الدكتور ثروت عكاشة، وأستاذتى الدكتورة سهير القلماوى التى اقترحت على ثروت عكاشة إقامة هذا المعرض الذى حضرتُ سنة افتتاحه للمرة الأولى، وكنتُ لا أزال طالبًا فى كلية الآداب بجامعة القاهرة، كما كنتُ تلميذًا لهذه الأستاذة العظيمة، ولذلك لم أتردد فى المُساهمة فى الاحتفاء بِذكراها بجمع عددٍ ضخمٍ من مقالاتها التى لم تُجمع فى كتاب، وبالفعل ظهرت هذه المقالات مُجمَّعة فى كتاب يقترب عدد صفحاته من ثمانمائة صفحة، طبعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب التى تتولى الإشراف على المعرض، وإقامة نشاطه الثقافى، فنشرت كتاب: «سهير القلماوى: مقالات فى الأدب والثقافة»، تقديم وتحرير: جابر عصفور. وكان من المرجو أن تُصدر الهيئة المصرية العامة للكتاب كتابًا آخر فى تكريم الدكتور ثروت عكاشة يكون بمثابة تطوير لكتاب صدر منذ سنوات بعيدة فى تكريم ثروت عكاشة عن مؤسسة سعاد الصباح بعنوان: «وردة فى عروة الفارس النبيل»، وكان يمكن إضافة بعض المقالات الجديدة إلى الكتاب القديم تكون موازية عن الإنجازات الثقافية لثروت عكاشة الذى تولى منذ ستين عامًا وزارة الثقافة التى احتفلت منذ أشهر بمرور ستين عامًا على إنشائها، ولكن للأسف لم يستمع أحد إلى نصيحتى مع أن الأمر كان مُمكِنًا وميسورًا، ولكن يبدو أن الأجيال الجديدة لا تقوم بدورها الضرورى فى تكريم الأجيال الراحلة، خصوصًا الشخصيات التى كان لها أعظم الأدوار وأهمها فى تاريخ الثقافة المصرية. وهكذا اقتصر الأمر على كتاب سهير القلماوى الذى أشرتُ إليه، ولم يشهد المعرض الذى أقامته الهيئة المصرية العامة للكتاب كتابًا موازيًا عن ثروت عكاشة الذى أعترفُ بأنه الوزير الذى مازالت خُططه أو إستراتيجية العمل الثقافى التى وضعها، هى الإستراتيجية التى لا تزال تعتمد وزارة الثقافة إلى اليوم على المبادئ التى أسَّسها والتى وضعها بمعاونة النخبة الثقافية التى جمعها فى دار الأوبرا على مدى أيام فى عام 1959، لتضع إستراتيجية كاملة للثقافة المصرية حين كان وزيرًا للثقافة. ومن المؤكد أن المعرض فى هذه السنة كان عملًا غير عادى. صحيح أن المسافة بعيدة على الذاهبين إليه، لكن قد تم تذليل هذه العقبة بتسيير حافلات تحمل الزائرين من الميادين الأساسية فى القاهرة إلى أرض المعرض الموجودة فى التجمع الخامس، ولذلك امتلأ المعرض هذا العام بأعداد أكبر من الزائرين والراغبين فى الاطلاع على أحدث ما أصدرته المطابع المصرية والعربية والأجنبية من كُتب، فقد كانت هذه السنة مُتميزة بدعوة عدد من دور النشر الأجنبية غير المصرية والعربية، فضلًا عن العدد المتزايد لدور النشر المصرية والعربية على السواء. ولقد أحسستُ بالبهجة حقًّا حينما أخذتُ أتجولُ بين القاعات الرئيسية للمعرض ومبانيه التى تُشعِر كل مصرى بالتميز فى أبنية هذا المعرض الذى أصبح بالفعل خصوصًا هذا العام- أهم المعارض العربية وأحسنها من حيث البناء والإنشاءات، فلم يعد هناك وجود لخيامٍ لا تقى الكتب المعروضة من الأمطار، ولم تعد هناك مشكلات لدورات المياه التى كانت شبه مُنعدمة فى المعارض السابقة، فالمبانى حديثة ونظيفة وصحية، أقامتها القوات المسلحة على نحو يدعو إلى الفرح والفخر. وقد استعدت الهيئة المصرية العامة للكتاب كما استعدت بقية مؤسسات وزارة الثقافة على أفضل نحوٍ وأكمله، بل تنافست الهيئات فى عرض كُتُبها. وقد كان يمكن للهيئة المصرية العامة للكتاب أن ترى فى هذا المعرض فرصة تاريخية لإثبات حضورها وفاعليَّتها، ولذلك استعدت ببرنامج ثقافى ضخم، كان يمكن أن يتحقق لو أشرف عليه وصاغه مجموعة من العقول الثقافية النشيطة والواعية بما يدور من اهتمامات ثقافية فى العالم المعاصر اليوم، خصوصًا فى تطلعه للمستقبل الذى يخايلنا بإنجازاته العلمية والمعرفية المدهشة التى ليس للبشرية بها عهد من قبل. ولكن ذلك لم يحدث للأسف، فتشكلت لِجان ولِجان لا أعرفُ عددها ولا مداها ولكنى رأيتُ الأوجه المُتكررة نفسها والمثالب السابقة كلها، وذلك على نحوٍ أفقد ما فى الخمسينية الذهبية من معنى وجلال وشعور بمدى الإنجاز الثقافى المصرى على امتداد نصف قرن. والحق أننى لم أعُد أعرف هل أصبحنا نمضى إلى الأمام أم إلى الوراء فى مسائل وقضايا الثقافة المصرية؟! لكن ما رأيتُه من أنشطة ثقافية خاصة بالهيئة المصرية العامة للكتاب، كان أمرًا يدل على العشوائية التامة، وعدم الإعداد الجيد، وحتى عدم المبالاة واحترام الشخصيات المدعوة التى استقدمناها من الخارج، والتى للأسف - تحددت على نحوٍ عشوائى خاضعٍ إلى أبعد حد للمُجاملة والشِّلَليَّة ودوائر المعارف الشخصية، بعيدًا عن الغاية النبيلة التى كان يرمز إليها حضور كل من سهير القلماوى وثروت عكاشة علامَتَى معرض هذا العام الذى انتهى. وكانت المفاجأة أن الدعوات لم تصل إلى الشخصيات المَعنيَّة قبل افتتاح المعرض، وعرفنا خبر افتتاح المعرض من الصُّحف وأجهزة الإعلام، ومرت الأيام الأولى من الافتتاح ولم يتلقَّ الكثيرون ومنهم أنا شخصيًّا- دعوات للحضور، ولم يحدث هذا إلا بعد أن هاتفتُ رئيس الهيئة الدكتور هيثم الحاج على عدة مرات. وعندما تم تدارك الأمر وذهبتُ أخيرًا فى ندوة أنا مُشارك فيها، فوجئت بالشكاوى التى توالت على ألسنة أغلب المُشاركين الذين رأيتُهم، بل الشكاوى الموازية للضيوف العرب الذين استضافتهم هيئة الكتاب، بل فوجئت بأن أسماء عربية لا وزن لها لا فى مجالها المحلِّى أو القومى، موضوعة فى برنامج المعرض ولا أريد أن أخوض فى الأسماء أو القيمة الخاصة بهذه الأسماء، فالأهم منها أسماء الأعلام الكبيرة التى لم تراعِ الهيئة المصرية العامة للكتاب قَدرها ومكانتها المحترمة فى الثقافة العربية كلها وليس فى الثقافة المصرية وحدها. يكفى أن نعرف أن الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى لم يُبلَّغ بمُشاركته فى أحد الأنشطة إلا قُبيل الموعد بساعات، وما كان الرجل يمكن أن يستجيب لمثل هذه الدعوة الهزلية إلا بالاعتذار، وهو الموقف الذى حدث مع كثيرٍ غيره، ومنهم الأستاذ الدكتور عمر الخشاب، الابن الأكبر للمرحومة الدكتورة سهير القلماوى، الذى وُجِّهت إليه الدعوة قبلها بيومٍ أو فى اليوم نفسه، فلم يكن أمام هذا الطبيب الكبير والمشغول دائمًا بعمليَّاته وكثرة مرضاه إلا أن يعتذر لضيق الوقت، فاقترحوا عليه أن يتسلَّم درع والدته سهير القلماوى، نيابة عنه، أحد تلاميذها، وهو جابر عصفور، وبالطبع لم يقبل التلميذ أن ينوب عن الابن الذى يملأ الدنيا نشاطًا علميًّا وممارسات رائعة فى مجاله الطبى. ولم تكن حادثة أحمد عبد المعطى حجازى أو عمر الخشاب إلا نموذجًا صارخًا لهذا الاستهتار الإدارى الذى غلب على كل أنشطة المعرض الثقافية التى تتولاها الهيئة المصرية العامة للكتاب التى للأسف لم تَعُد تتمتع بقيادةٍ صارمةٍ حازمةٍ تستطيع أن ترعى وأن تُشرِف بصرامةٍ وأن تراقب فى حسمٍ تنفيذ المُخططات على أرضية الواقع الفعلى. ومن المهم أن أقول فى هذا المجال، إن الإدارة الناجحة لا يكفى فيها أن نبتسم لكل الناس، أو نُرضِى الجميع، فالحق أحق بأن يُتَّبع والصرامة والحسم هى أسرع طريق للنجاح حتى وإن أغضبنا هذا أو ذاك، فالمهم هو نجاح المخطط الكُلى والإستراتيجية التى تُراعِى الأغلب والأعم وليس الأدنى والأقل، بعيدًا عن العلاقات الشخصية أو المجاملة المَمجوجة التى لا محل لها من الإعراب أو القيمة. ولذلك لم يَشعر أحد بصدى مؤثر للنشاط الثقافى الذى أشرفت عليه هيئة الكتاب فى هذا المعرض، ذلك أن هذه الهيئة لم تستطع أن تُحيل المعرض إلى حدثٍ ثقافى استثنائى لم يتكرر من قبل بكل معنى الكلمة، وأن تجعل من نشاطه تعبيرًا جميلًا عن الطموح الثقافى الواعد لكل الأجيال الصاعدة والواعدة فى مصر اليوم. وهأنذا أسترجعُ المرة الأولى التى حضرتُ فيها الأنشطة الثقافية لمعرض الكتاب الأول ولم تكن هذه الأنشطة تقام فى أرض المعارض بالجزيرة، بل أُقيمت فى قاعة محاضرات الغرفة التجارية فى باب اللوق، وكنتُ حريصًا على الذهاب إليها بعد انتهائى من رؤية الكُتب، وهناك رأيتُ للمرة الأولى الأعلام الكبار من أساتذة الآداب والثقافة والفن وحضرتُ ندواتهم ورأيتُ نقاشاتهم، وكنتُ فى كل مرةٍ أخرجُ، فى نهاية أماسى النشاط الثقافى، وأنا أكثر غنى ومعرفة وأكثر تطلعًا إلى مستقبلٍ واعد. أما هذا العام بعد أن تجاوزتُ السبعين بسنوات فقد ذهبتُ إلى قاعات الأنشطة فى المعرض الجديد وكنتُ كل مرة أُفاجَأ بِقلةٍ نادرةٍ من الحضور أو حتى عدم الحضور. والمرة الوحيدة التى قَبِلتُ أن أرأسَ جلسة حوارية مع الروائى والشاعر المغربى الكبير محمد الأشعرى وكان من ضيوف المعرض، فلم يكن عدد الحضور يزيد على عشرة أفراد على وجه التحديد، وكان السبب فى ذلك واضحًا وبيِّنًا، فلم يكن هناك إعلان واضح عن الندوات، ولم تكن هناك دعوات خاصة لندوات الضيوف العرب أو حتى إشارة عنها فى الإعلام الثقافى. ولكنى رغم ذلك كله كنتُ حريصًا على الحضور ولم أتردد فى إسداء النُّصح إلى رئيس الهيئة بوصفه ابنًا وتلميذًا. وسرعان ما مرت الأيام وانتهى المعرض، ولكن ظلت فى نفسى غُصَّة وقلتُ لنفسى ما قاله المُتنبى فى بيته: وَلم أرَ فى عُيُوبِ النّاسِ شَيْئًا كَنَقصِ القادِرِينَ على التَّمَامِ لكن لم تكن كل أيام المعرض مثيرة للأسى على هذا النحو، فإن عجز رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب عن أن يضع لنفسه لجنة ثقافية نشيطة واعية بكل ما حولها، قادرة على أن تُحقق لنفسها ولِمن شكَّلها النَّجاح والفلاح، فإن الهيئات الأخرى لوزارة الثقافة قد عوَّضت هذا التقصير الشديد الذى رأيناه فى البرنامج الثقافى لهيئة الكتاب التى اختلط فيها الحابل بالنابل إلى أبعد حد، فقد كانت لهيئات وزارة الثقافة الأخرى إنجازات لا بد أن نُقدِّم لها شهادة التقدير والعرفان والامتنان، خصوصًا من حيث قُدرتها على تحقيقِ أهداف وزارة الثقافة بكل معانيها المعرفية والتسويقية والاجتماعية. وأظن أن الهيئة الأولى التى ينبغى توجيه التحية الكاملة لها، هى الهيئة العامة لقصور الثقافة التى يرأس مجلس إدارتها الدكتور أحمد عواض، ويُشرف على النشر والشئون الثقافية فيها الأستاذ الشاعر والمثقف جرجس شكرى. فالحق أن مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة، كانت النجم الحقيقى لمعرض الكتاب بكل ما أنجزته من إصدارات نحن فى أمسِّ الحاجة إليها. وما أكثر ما شعرتُ بالفرحة وأنا أرى هذا التزاحم الشديد على كُتب الهيئة العامة لقصور الثقافة التى كانت تنفد بمجرد أن تصل إلى الجناح. وكم كنتُ سعيدًا برؤية المواطنين وهم يتكالبون على شراء كُتُبها بل العِراك عليها، وهو الأمر الذى يؤكد أن القارئ المصرى لا يزال موجودًا، وأنه يتشوَّق إلى مُطالعة الكتب التى تبنِى فيه معانى الوطنية وتؤكِّدها وتفتح أمامه أبواب المُعاصرة التى لا تنفصل عن الأصالة الوطنية بأى حال من الأحوال، والدليلُ على ذلك مجموعة إصدارات سلسلة «ذاكرة الكتابة» الخاصة بالذكرى المئوية التى نحتفل بها هذا العام على مرور ثورة 1919 التى هى الثورة الأم التى بفضلها وبسببها تأصَّل معنى المواطنة المصرية وشعارات: «مصر للمصريين» و«وحدة الهلال مع الصليب» و«الدين لله والوطن للجميع». وهكذا كنتُ أرى حزمة كبيرة من الكتب تضم كتاب الدكتور عبدالخالق لاشين عن «سعد زغلول وثورة 19»، ومجلدات عبد الرحمن الرافعى عن ثورة 19 وعما حدث فى أعقابها، فضلًا عمّا كتبه محمد عبدالفتاح أبو الفضل عن «تأملات ثورة 19»، و«ثورة مصر 1919» للدكتور عبدالرحمن الرافعى، و«بريطانيا وثورة 19» للدكتور مكى الطيب شبيكة، فضلًا عن حسين مؤنس: «دراسات فى ثورة 19»، وكتاب الدكتور محمد مظهر سعيد وهو ذكريات شخصية بعنوان: «سجين ثورة 19»، والدكتور محمد مظهر سعيد نفسه هو أحد الأبطال الذين شاركوا فى الثورة، والذى كان له دور فيها، وقد نشر كتابه هذا بعد إضافة معرفية لها أهميتها لكل من يريد أن يعرف تاريخ الثورات الوطنية فى مصر، وكيف أن المصريين المعاصرين الذين يعيشون فى هذه الأيام لا بد أن يشعروا، خصوصًا عام 2019، أن عليهم أن يحتفلوا أعظم الاحتفال بمرور مائة عام على الثورة التى أسست تاريخ نضالهم الوطنى وحرَّرتهم من كل أشكال التَّبعية والظلم، وكانت بمثابة الحَجر الأول والأقوى فى بناء النهضة المصرية التى سرعان ما أدَّت إلى تأصل وعود الحرية والاستقلال والمواطنة على كل المستويات وفى كل المجالات. ولم يكن هذا ما قدَّمته الهيئة العامة لقصور الثقافة فحسب، بل أتاحت للقارئ المصرى طبعة جديدة من سلسلة «روائع المسرح العالمى» التى كانت تُصدرها وزارة الثقافة المصرية فى عهدها الذهبى حينما كانت هى الناشر الأول والمرموق على مستوى العالم العربى كله، وذلك قبل أن تتنازل عن مكانتها وتترك أشكال رياداتها لتنتقل إلى غيرها من أقطار العالم العربى. ولا أُريد أن أُعدِّد ما رأيتُه من إنجازات رائعة فى الجناح الخاص بالهيئة العامة لقصور الثقافة، فما رأيتُه أثلج صدرى، وجعلنى أشعُر بالفرح والفخر بوصفى مواطنًا مصريًّا خصوصًا وأنا أرى هذه الحشود من الجماهير المُتعطشة للثقافة، وهى تتدافع على شراء مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة التى أُعطيها بلا تردُّدٍ نجمة التَّميُّز فيما يتصل بالنشر على امتداد دور النشر المصرية لهذا العام، ومن ثم أتوجه بالتهنئة إلى الأستاذ جرجس شكرى على هذا الإنجاز الذى حققه من إدارة ناجحة لإصدارات ثقافية فى عام من أهم أعوام التاريخ المصرى، وهو تاريخ يرتبط بمرور مائة عام على الثورة التى أسهمت فى تأسيس الوعى الوطنى المصرى بضرورة وجود دولة وطنية مدنية ديموقراطية حديثة. أما الهيئة الثانية لوزارة الثقافة والجديرة بالتهنئة على كل ما أنجزت، فهى المركز القومى للترجمة، صحيح أننى أتحرَّجُ دائمًا من الحديث عن المركز القومى للترجمة لأسباب يعرفها الكثيرون، ولكن حسب المركز القومى للترجمة أنه أنجز فى العام الماضى وحده ثلاث موسوعات ما كان يمكن لأى دار نشر فى القطاع الخاص إصدارها. أما الموسوعة الأولى فهى: «موسوعة الهرمنيوطيقا» التى ترجمها الأستاذ الدكتور محمد عنانى، وقد سبق أن كتبتُ عنها فى هذه الجريدة، أما الموسوعة الثانية، فهى موسوعة: «ألف ليلة وليلة» أو «الليالى العربية» التى ترجمها السيد إمام، والذى بذل فيها كل الجهد فخرجت على نحوٍ بالغ الأهمية، يسد ثغرات لا تزال موجودة فى مجالات البحث عن ليالى ألف ليلة وليلة من حيث مصادرها ومجالات إسهاماتها وتراكيبها التى تتراتب فيها طبقات على طبقات مُشيرة إلى تاريخ تراكمها وتَجمُّعِها، فضلًا عن شخصياتها وموضوعاتها ومعانيها الرمزية التى تومِئ إلى دلالات سياسية واجتماعية وعرقية وجنسية على السواء، وذلك فى ثراء لا نزال نتعلم من ثمراته الكثير والكثير. والموسوعة الأخيرة هى: «معجم الأساطير اليونانية والرومانية» الذى ترجمه الدكتور عبدالباسط حسن، وراجعه الدكتور محمد حمدى إبراهيم مراجعة دقيقة بالغة الثراء والإفادة. ولم تكن هذه الموسوعات الثلاث هى الموسوعات الوحيدة التى نشرها المركز القومى للترجمة فى العام الماضى، إنما كانت إلى جانبها كُتب أخرى كثيرة جعلتنى أشعر بالاطمئنان والفخر بمسار المركز وأهميته التى لا يزال يحرص على تأكيدها فى عالم اليوم الذى تداعت فيه الحدود بين القارات والأنظمة، فأصبحنا فى عالمٍ لا نجاح فيه ولا بقاء إلا للأقوى معرفيًّا، فنحن نعيش بالفعل فى عصر المعرفة التى لا حدود لتقدمها والعلوم التى لا تكف عن تطورها فى كل عام بل فى كل يوم. أما عن دور النشر المصرية والعربية، فكلها تسعى إلى ما يحقق مصلحتها التى تتصل بالربح بالدرجة الأولى، قد تختلف هذه الدار عن غيرها فى ابتغاء هذا الهدف أو ذاك بعيدًا عن دائرة الربح المادى، ولكن يبقى أن الدافع الأساسى لقطاع النشر الخاص هو تحقيق أكبر قَدر من الربح، ولا اعتراض لى على ذلك، فالمهم أن يَعدِل الناشرون ولا يبالغون فى رفع أسعار الكتاب، وعليهم أن يُدركوا أن لمواطنيهم المصريين الحق فى الحصول على الكتاب بسعرٍ معقولٍ ومقبولٍ، يتناسب وظروفهم الاقتصادية الصعبة، وهو الهدف الذى نجحت فيه بالدرجة الأولى الهيئة العامة لقصور الثقافة بما اعتمدته من خُطَّةٍ مُنظَّمةٍ وتخطيطٍ رشيد. فالحق أن رُخص أسعار مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة هو درسٌ فى ذاته ينبغى أن يَحتذيه الناشرون المصريون والعرب خصوصًا هؤلاء الذين أصبح كل هَمِّهم الربح أولًا ثم تأتى القيمة بعد ذلك فى المرتبة التالية. والحق أن عدد الجولات التى قمتُ بها بين قاعات المعرض جعلتنى أتأكد أولًا أن الثقافة العربية المدنيَّة بخيرٍ، وتتحرك صوب الأمام فى اتجاه التقدم من ناحية، وانحياز واضحٍ إلى فكر الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة من ناحيةٍ موازية. لمزيد من مقالات جابر عصفور