تصنع المناصب الكثيرين ويصنع القليلون المناصب؛ فيقدمون من عقولهم ما يفيد أوطانهم ويخلد ذكراهم بالوقت نفسه؛ من القليل دكتور ثروت عكاشة صانع الثقافة المصرية الحديثة وعاشق الفنون وصاحب الإبداعات الثرية. ولد 18فبراير 1921وغادر جسده الحياة 2012بعد أن ترك عقله ووجدانه إبداعات تحتضنها الحياة. .. عاش ثروت عكاشة حياة حافلة متنوعة؛ بدأها ضابطًا بالجيش ثم رئيس تحرير لمجلة التحرير ثم ملحقًا عسكريًا فسفيرًا وبعدها وزيرًا للإرشاد ووزيرًا للثقافة وترأس العديد من المؤسسات وفى كل هذه المجالات كان الشغف والحرص على ترك بصمته الخاصة يقودانه. بدأ معرض القاهرة الدولى للكتاب لأول مرة عندما كان وزيرا للثقافة لإيمانه بأهمية الثقافة للإنسان؛ فهى كالخبز ضرورية للحياة. حرص على وضع البنية التحتية لوزارة الثقافة ولم يقبل أن تكون مجرد أداة لنشر مبادئ الثورة؛ فأسس الهيئة العامة للكتاب لتتسع رقعة الثقافة بمصر وليمنح الكتاب والأدباء فرص نشر إبداعاتهم بعيدا عن سطوة رأس مال القطاع الخاص وليصل الكتاب لكل قارئ بأرخص سعر، وكيف لا يفعل ذلك؟ وهو عاشق القراءة منذ صغره والذى ادخر من مصروفه لينشئ مكتبة صغيرة ببيته وهو ما يدل على الوعى «المبكر» بأهمية الكتاب فى صنع الإنسان. كما أنشأ الهيئة العامة لقصور الثقافة لتنتشر فى كل قرى ومدن مصر، وكانت نافذة لأدباء الأقاليم لتمنحهم حقوقهم العادلة فى تبوؤ مكانتهم بالساحة الأدبية وفتح الأبواب لكثير من مبدعى الأقاليم الذين أضافوا للأدب المصرى المعاصر... وأسس المجلس الأعلى للثقافة لتوسيع رقعة الثقافة ولمنح المثقفين دورًا حيويًا بالمشاركة فى رسم سياسة وزارة الثقافة ولا يكونوا مجرد متلقين للتعليمات وهو أول وزير للثقافة يمنح هذا الدور للمثقفين. أسهم ثروت عكاشة فى مشروع إنقاذ معبد أبو سمبل ومعبد فيلة وبذل الجهد الدولى وحافظ على كنوز الحضارة المصرية، ويعد الأب المؤسس لبعض المتاحف واهتم بتطويرها لثقته بأنها الجسور التى تربط الحاضر والمستقبل بالماضى. كرمته مصر واليونسكو وكثير من الدول لدوره المميز ثقافيا ولإنجازاته غير المسبوقة ولكتبه وموسوعاته المختلفة. قدم للمكتبة العربية الكثير من الكتب والموسوعات المتفردة فى مجالها ومنها: الفن المصرى القديم، فنون العصور الوسطي، فنون التصوير الإسلامي، والمعجم الموسوعى للمصطلحات الثقافية - إنجليزى - فرنسي. أما كتابه «مذكراتى فى السياسة والثقافة» فقد كتبه ليقول «كلمته» فى كل ما عاصره من أحداث بعد كثرة المذكرات عن ثورة يوليو وما تلاها من أحداث فقرر كتابة مذكراته التى كانت مزيجا من السياسة والثقافة والفنون وبعض ذكرياته الخاصة فقدمت للقارئ وجبة متكاملة عن هذه المرحلة المهمة بتاريخ مصر. نظلم الدكتورة سهير القلماوى إذا تذكرناها فقط فى كل معرض للكتاب بالقاهرة؛ فهى ليست أول من فكر بإقامة المعرض وحوله لواقع؛ بل كانت الأولى فى كثير من محطات حياتها الثرية؛ وكيف لا؟ وهى القائلة ومن لا يسعده مرور الزمن يشقى نفسه بما لا فائدة فى علاجه.. لذا سعت ونجحت فى شغل عمرها بما «يبقيها» بعد رحيل جسدها..ولدت سهير يوليو 1911وتوفيت فى 4مايو 1997 . وكما يضم معرض الكتاب الكثير من الروائع العلمية والابداعات الأدبية؛ شملت حياة سهير القلماوى إنجازات «وكسرا» لاحتكار الرجال بأماكن ومكانات؛ ولم تفعل سهير ذلك لتصنع صراعات مع الرجال بل «لتسترد» مكانة المرأة التى «خبأت» زهوتها لأجيال طالت بأكثر مما ينبغى ولتستنهض همم نصف المجتمع ليزدهر كل الوطن. لم تنظر سهير للحياة من منظور نسوى ضيق باهت يختزل الحياة فى الانتصار لجنسه؛ بل اهتمت بالنظرة الواسعة للحياة وسعت لحياة أفضل لوطنها؛ فلا حياة كريمة بلا ثقافة وبلا تعليم، واهتمت سهير بتوسيع مساحات الوعى الثقافى فلم تكتف بتنفيذ فكرة د.ثروت عكاشة باقامة أول معرض دولى للكتاب بمصر وكان به جناح خاص لأدب الطفل، بل أنشأت أول مكتبة بصالة مسرح الأزبكية تخصصت فى بيع الكتب بأسعار مخفضة لتيسير وصول الكتب لأكبر عدد من المصريين، واهتمت بترجمة الأدب العالمى وتقديمه للقارئ بطبعات شعبية، كما أسهمت فى أثناء رئاستها الهيئة العامة للكتاب فى اكتشاف ومساندة ودعم أدباء شباب -وقتئذ- وعلى رأسهم الشاعر صلاح عبد الصبور. واقتحمت الحياة ولم تختبئ؛ لم تستسلم عندما رفضت الجامعة التحاقها بكلية الطب والتحقت بكلية الآداب وأصبحت من أول أربع بنات يدرسن بالجامعة، واختارت قسم اللغة العربية الذى كان يرأسه د.طه حسين وكانت البنت الوحيدة بالقسم وعملت بالصحافة وهى طالبة بالجامعة. لم تكن حياتها وردية؛ فلا وجود للحياة الوردية، ولكنها تحدت أوجاعها بالعمل فعندما مات والدها وقدوتها بالحياة لم تستسلم للحزن واستغرقت فى كتابة كتابها «أحاديث جدتى» الذى طبعته على نفقتها الخاصة وكان عمرها 24عامًا، وكتب لها المقدمة عميد الأدب العربى د. طه حسين وقال عن أسلوبها: «العبارة السهلة اليسيرة التى برئت من أى تكلف وارتفعت عن كل تصنع وتحدثت إلى النفس والقلب المصرى بلغة النفس والقلب المصرى» وكفى بها شهادة عن عمق مصريتها وصدق إبداعها.وشهادة أيضا لطه حسين فى عظمة دعمه تلميذته خاصة ولحواء عامة، وكانت أول مجموعة قصصية لامرأة مصرية وقدمت من خلال حكايات الجدة لحفيدتها خبايا وتفاصيل الحياة الاجتماعية عند الطبقة المتوسطة آنذاك. وكانت أول معيدة بالجامعة، ولم تكتفِ بأنها أول فتاة تحصل على الماجستير بمصر؛ بل اختارت موضوعا صعبا «وشائكًا» وهو أدب الخوارج فى العصر الأموى. وحصلت على الدكتوراه وقدمت «أول» دراسة منهجية علمية تتناول ألف ليلة وليلة. كما حصدت جوائز كثيرة ربما أهمها أنها نفذت ما كانت تنصح به من شطب اليأس من قاموس الحياة ثم العمل المستمر ثم القراءة حتى أثبتت لنفسها وللرجال وللنساء أن بإمكان أى إنسان ألا يكتفى بأن يكون رقمًا «عابرًا» بالحياة وأن يضيف إلى نفسه ولمجتمعه ما يزيد مساحات الوعى.