حدث ليلا.. مواجهات وملفات ساخنة حول العالم (فيديو)    الأهلى بطلا لكأس السوبر المصرى للمرة ال16.. فى كاريكاتير اليوم السابع    شيري عادل: «بتكسف لما بتفرج على نفسي في أي مسلسل»    أسعار مواد البناء اليوم الإثنين 10 نوفمبر 2025    عدسة نانوية ثورية ابتكار روسي بديل للأشعة السينية في الطب    اليوم..1283 مرشحًا فرديًا يتنافسون على 142 مقعدًا فى «ماراثون النواب»    ترامب: الإغلاق الحكومى فى الولايات المتحدة يقترب من نهايته    السقا والرداد وأيتن عامر.. نجوم الفن في عزاء والد محمد رمضان | صور    اليوم.. العرض الخاص لفيلم «السلم والثعبان 2» بحضور أبطال العمل    مجلس الشيوخ الأمريكي يتوصل إلى اتفاق لإنهاء الإغلاق الحكومي    التحول الرقمي.. مساعد وزير الصحة: هدفنا تمكين متخذي القرار عبر بيانات دقيقة وموثوقة    بالأسماء.. شيكابالا يكشف 12 لاعبًا يستحقون الاستمرار مع الزمالك    شبورة وأمطار.. الأرصاد تكشف حالة الطقس المتوقعة اليوم 10 نوفمبر    «الثروة الحيوانية»: انتشار الحمى القلاعية شائعة ولا داعٍ للقلق (فيديو)    قطع التيار الكهربائي اليوم عن 18 منطقة في كفر الشيخ.. اعرف السبب    مواجهات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلى شمال القدس المحتلة    تركيا تسعى لتأمين ممر إنساني لإنقاذ 200 مدني من أنفاق غزة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 10 نوفمبر    مساعد وزير الصحة: نستهدف توفير 3 أسرة لكل 1000 نسمة وفق المعايير العالمية    عاجل نقل الفنان محمد صبحي للعناية المركزة.. التفاصيل هنا    قائمة مقررات الصف الثاني الثانوي أدبي ل امتحانات شهر نوفمبر 2025.. المواعيد كاملة    طوابير بالتنقيط وصور بالذكاء الاصطناعي.. المشهد الأبرز في تصويت المصريين بالخارج يكشف هزلية "انتخابات" النواب    ترامب يتهم "بي بي سي" بالتلاعب بخطابه ومحاولة التأثير على الانتخابات الأمريكية    الاتحاد الأفريقي يعرب عن قلقه البالغ إزاء تدهور الوضع الأمني في مالي    رئيس لجنة كورونا يوضح أعراض الفيروس الجديد ويحذر الفئات الأكثر عرضة    وفاة العقيد عمرو حسن من قوات تأمين الانتخابات شمال المنيا    متى ستحصل مصر على الشريحتين الخامسة والسادسة من قرض صندوق النقد؟ وزير المالية يجيب    مي عمر أمام أحمد السقا في فيلم «هيروشيما»    باريس سان جيرمان يسترجع صدارة الدوري بفوز على ليون في ال +90    «مش بيلعب وبينضم».. شيكابالا ينتقد تواجد مصطفى شوبير مع منتخب مصر    عمرو أديب عن نهائي السوبر بين الأهلي والزمالك: «معلق المباراة جابلي هسهس»    معسكر منتخب مصر المشارك في كأس العرب ينطلق اليوم استعدادا لمواجهتي الجزائر    وزير المالية: نسعى لتنفيذ صفقة حكوميه للتخارج قبل نهاية العام    "مصر تتسلم 3.5 مليار دولار".. وزير المالية يكشف تفاصيل صفقة "علم الروم"    الطالبان المتهمان في حادث دهس الشيخ زايد: «والدنا خبط الضحايا بالعربية وجرى»    «لا تقاوم».. طريقة عمل الملوخية خطوة بخطوة    كشف ملابسات فيديو صفع سيدة بالشرقية بسبب خلافات على تهوية الخبز    أداة «غير مضمونة» للتخلص من الشيب.. موضة حقن الشعر الرمادي تثير جدلا    أمواج تسونامي خفيفة تصل شمال شرق اليابان بعد زلزال بقوة 6.9 درجة    ON SPORT تعرض ملخص لمسات زيزو فى السوبر المحلى أمام الزمالك    «لاعيبة لا تستحق قميص الزمالك».. ميدو يفتح النار على مسؤولي القلعة البيضاء    الكشف إصابة أحمد سامي مدافع بيراميدز    مساعد وزير الصحة لنظم المعلومات: التحول الرقمي محور المؤتمر العالمي الثالث للسكان والصحة    3 أبراج «مستحيل يقولوا بحبك في الأول».. يخافون من الرفض ولا يعترفون بمشاعرهم بسهولة    الصحة ل ستوديو إكسترا: 384 مشروعا لتطوير القطاع الصحي حتى عام 2030    ميشيل مساك لصاحبة السعادة: أغنية الحلوة تصدرت الترند مرتين    نشأت أبو الخير يكتب: القديس مارمرقس كاروز الديار المصرية    البابا تواضروس ومحافظ الجيزة يفتتحان عددًا من المشروعات الخدمية والاجتماعية ب6 أكتوبر    محافظ قنا يشارك في احتفالات موسم الشهيد مارجرجس بدير المحروسة    3 سيارات إطفاء تسيطر على حريق مخبز بالبدرشين    تطورات الحالة الصحية للمطرب إسماعيل الليثى بعد تعرضه لحادث أليم    نجل عبد الناصر يرد على ياسر جلال بعد تصريح إنزال قوات صاعقة جزائرية بميدان التحرير    هل يجوز الحلف ب«وحياتك» أو «ورحمة أمك»؟.. أمين الفتوى يُجيب    هل يجوز أن تكتب الأم ذهبها كله لابنتها؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    انتخابات مجلس النواب 2025.. اعرف لجنتك الانتخابية بالرقم القومي من هنا (رابط)    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أفراح الذاكرة: أم كلثوم نعمة الدنيا
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 02 - 2019

سأل صحفى «نجيب محفوظ» عن «أم كلثوم»، ففكر بعض الشيء، ثم قال بهدوء رزين: أم كلثوم نعمة الدنيا. بداية تعرفه عليها عندما كان فى الخامسة عشرة من عمره، وتشاجر مع صديقه لاعب الكرة من شلة العباسية حول عظمة صوت «منيرة المهدية»، التى كانت سقف الغناء فى ذلك الوقت، فإذا بصاحبه لاعب الكرة يقول له بحدة: أنت تقول ذلك لأنك لم تسمع «أم كلثوم». فسأله: ومن «أم كلثوم» هذه التى تريد أن تقارنها بالسلطانة؟. فأجابه بحسم: اسمعها، وتعالى وقل لى رأيك. وذهب لحفلتها، وقطع تذكرة، واستمع إليها، ومن يومها وهى خاطفة لبه.
........................................................
كانت «أم كلثوم» بالنسبة له نعمة الدنيا بالفعل، فقد أحب الطرب على أنغامها، وكان يتحجج بمذاكرة دروسه مع أصدقائه بعد ثورة 1919، ويذهب إلى حفلاتها فى مسرح «الماجستيك» الذى هدم وطلعت بدلا منه عمارة ضخمة فى أول شارع فؤاد الذى أصبح اسمه شارع 26 يوليو بعد ثورة 23 يوليو، وبسببها قرر أن يصبح مطربا، فانتسب إلى معهد الموسيقى العربية ليتعلم العزف، وكان من أساتذته فى هذا المعهد «العقاد» الكبير، أشهر عازف للقانون فى مصر، وأحد أعضاء فرقة «أم كلثوم». عندما تقدم «نجيب محفوظ» للامتحان فى معهد الموسيقى العربية، كانت اللجنة التى ستختبره مكونة من أساتذة المعهد الأكاديميين، وبعض الهواة والسميعة من خارج المعهد، فى ذلك الوقت كان للسميعة مكانة مرموقة فى حياة الموسيقيين والمطربين، وكان المعلم «دبشة» الجزار الآمى الذى لا يعرف القراءة والكتابة واحدا من أعضاء اللجنة التى ستمتحن الطلاب، يجلس مع كبار الأكاديميين، ويقول الرأى ويشير بالمشورة، وما يقوله يؤخذ بعين الاعتبار، مثله مثل رئيس اللجنة، وقد أجازت هذه اللجنة الطالب «نجيب محفوظ» ليدرس فى المعهد.
المعلم «دبشة» هذا له كرسى مخصوص فى الصفوف الأولى لحفلات «أم كلثوم» كلها، وهى كانت تخصه بعنايتها فى الغناء، وتستجيب لطلباته لما يتسلطن، ويطلب منها إعادة الكوبليه، حتى إنه فى إحدى المرات ظل يطلب إعادة الكوبليه مرة ومرة ومرة، وفى المرة الأخيرة قالت «أم كلثوم» مرة أخرى لأجل خاطر عيون المعلم «دبشة»، ولما تغيب عن إحدى حفلاتها، أرسلت سائقها إلى بيته فى حى بولاق الدكرور حاملا بوكيه ورد، لأنها عرفت أنه مريض، ولهذا السبب، تقرب منه «نجيب محفوظ»، وأحبه، فهو واحد من الأعمدة التى تقوم عليها حفلات الست.
لما ابتدأت الإذاعة المصرية الحكومية بث أثيرها فى عام 1934، خصصت حفلتين لأم كلثوم يومى الإثنين والخميس، فانتقلت من خصوصية الحفلات لعمومية الشوارع والبيوت، وأصبحت ملكا مشاعا للناس كلهم، بعد أن كانت ملكا خاصا لسميعتها الخلصاء، الأمر الذى ضايق «نجيب محفوظ» جدا، فتكرار أغانيها للناس كلهم مرتين فى الأسبوع سيجعلها عادية ومكرورة وربما يملها الناس، فأرسل إليها خطابا قليل الكلمات موقعا من فاعل خير، يقول لها فيه: من فضلك، عززى نفسك، ولا تكررى الغناء مرتين فى الأسبوع، واكتفى بمرة واحدة فى الشهر، حتى يشتاق إليك المحبون. ويبدو أنها لم تستمع لنصيحته، أو ربما لم تقرأ خطابه أصلا، لأنها استمرت تغنى كل اثنين وكل خميس. وهو لا يستطيع أن يكتب إلا بعد أن يستمع إلى أغنية لها، يضع اسطوانتها على جهاز الجرامافون، الذى له بوق كالميكروفون، وإبرة تلتصق بالاسطوانة فى دورانها البطىء، وينساب صوتها حنوانا قويا جوابا، ويظل يتمشى فى الطرقة والصالة طوال الأغنية، ويترنم بشفتيه بالكلمات المموسقة، وعندما يتسلطن، يصرخ بالآهة المعجبانية، ويظل يروح ويجىء فى الصالة حتى تنتهى الأغنية، فيخلع الاسطوانة، ويعيدها لكرتونتها، ثم يتوجه لمكتبه، ليكمل اشتجاره اليومى مع شخوصه الفنيين الذين يؤرقه مصيرهم المأساوى. وعندما أنجب ابنته الأولى، أصر على أن يسميها «أم كلثوم»، لكن السيدة «عطية الله» زوجته، نبهته إلى أن الدنيا تغيرت، وأن أسماء البنات هذه الأيام مختلفة عن أسمائهن فى الجيل الماضى، ولفتت انتباهه إلى أن أسماء كثيرة مثل «رمش العين» و«سلسبيل» و»بذر الرمان» قد اندثرت تماما من قاموس سجل المواليد فى النصف الثانى من القرن العشرين، كما أنه لم يعد من اللائق أن تسمى البنت باسم يبتدئ بأم، هو اقتنع بالكلام من حيث المبدأ، فمنحها فى الأوراق الرسمية اسم «هدى»، وهو من الأسماء التى شاعت هذه الأيام بديلا عن الأسماء الأخرى التى اندثرت، لكنه ظل يناديها ب «أم كلثوم»، حتى نسيت الأسرة والأهل والجيران والزملاء اسمها الرسمى، أما ابنته الثانية، فقد منحها اسم «أم كلثوم» فى آخر أفلامها (فاطمة)، ولأنه يحب العدل، فكما منح ابنته الكبرى اسما رسميا، واسما حركيا، منح ابنته الصغرى اسما حركيا هو «فاتن». وهكذا، ظلت «أم كلثوم» بالنسبة له تعيش فى منطقة الحلم غير المتحقق، حتى نهايات عام 1961، عندما بلغ عامه الخمسين، فقرر أصدقاؤه الاحتفال به على طريقتهم الخاصة، لكن «صلاح جاهين» منسق الاحتفال، اكتشف حجم الورطة الكبيرة، عندما رأى أن من سيحضرون أكبر من ركنهم الخاص فى كازينو قصر النيل، فاتجه لرئيس تحرير الأهرام «محمد حسنين هيكل» عله يجد له مكانا أكثر اتساعا يقيمون فيه حفلهم بالنجيب الخمسينى، فهو صاحب خبرة كبيرة بالأماكن التى تسهر، وتصلح لمثل هذا الاحتفال، لكن «هيكل» نفث دخان سيجاره الكولومبى ذا الرائحة النفاذة فى سقف حجرة مكتبه، وقال ل «صلاح جاهين»: الأهرام أولى بهذا الاحتفال. وتولى «هيكل» تنظيمه بطريقته البروتوكولية الرسمية، «نجيب محفوظ» ابن الشارع، ورفيق الحرافيش، ولا يرتدى الكرافتات أبدا، فلم يسترح للأمر، هو يفضل كازينو قصر النيل، الذى يتيح له هواء أكثر حرية من هواء الأهرام المكيف، لكن «محمد حسنين هيكل» همس فى أذنه: سأدعو «أم كلثوم»، فوقع قلبه فى رجليه. «هيكل» البروتوكولى العتيق، لم يدع «أم كلثوم» وحدها، بل دعا معها «محمد عبدالوهاب» و«فاتن حمامة»، ولم يشأ أن يحرمه من جوه الذى اعتاده، فدعا أصدقاءه الحرافيش، حتى بلغ عدد المدعوين قرابة المائتى شخص، لدرجة أن «توفيق الحكيم» أبخل خلق الله فى الأرض، قدم له صينية من الفضة الخالصة، ظل «نجيب محفوظ» محتفظا بها طوال حياته، يفرجها للزوار فلا يصدقون، ويحكى حكايتها للجيران فيصابون بالدهشة، توفيق الحكيم؟، ومن حر ماله؟. لما حانت اللحظة الكبرى، ووجد «نجيب محفوظ» نفسه وجها لوجه أمام «أم كلثوم»، ظل يتأمل قسمات وجهها، وكان يسأل نفسه: أتأتى «أم كلثوم» خصيصا من أجلى أنا، وتغنى لى فى عيد ميلادى، وأنا الذى كنت أدور حولها فى الحفلات؟ ولما مدت يدها لتسلم عليه، أحس بقشعريرة تنتاب جسده كله، كانت المرة الأولى التى يلمس فيها أصابعها، وكان كأنه يحلم. ليس هذا فحسب، بل إنها لما قدمها «هيكل» لتتكلم، قالت جملة ألجمته من الفرحة: لقد أسعدنى «نجيب محفوظ» برواياته وقصصه فى الخمسين عاما الأولى من عمره، واتمنى أن يسعدنى خمسين عاما أخرى. هنا، لم يتمالك «نجيب محفوظ» نفسه، فوقف ورد عليها بصوت مرتجف لكنه هادئ، وقال: إذا كانت كتاباتى قد أسعدت «أم كلثوم»، فماذا يستطيع إنسان أن يفعل إزاء إحساسه بأنه أسعد مصدر سعادته. فى إحدى الجلسات التى ضمت بعضا من قصاصى وروائيى الستينيات، لاحظ «نجيب محفوظ» أن بعض كتاب اليسار يشتمون «أم كلثوم»، ويقولون عنها كلاما مؤذيا، من عينة إنها مطربة لكل العصور، ومادحة لكل الرؤساء، حتى اشتط أحدهم فى الرأى وأعلن أنها السبب المباشر لنكسة 1967، عندها، نهض «نجيب محفوظ» غاضبا، تاركا المكان كله، «جمال الغيطانى» لحق به، وحاول استرضاءه، لكن «نجيب محفوظ» قال له بحدة: قل لأصحابك يا «جمال» ألا يمسوا «أم كلثوم» بسوء فى وجودى.
كانت مقابلته لها فى عيد ميلاده الخمسينى، هى المرة الوحيدة التى قابلها فيها، لكنها ظلت بالفعل مصدر سعادة له طيلة عمره، غير أن المشكلة الكبرى التى عاناها فى سنواته الأخيرة، هى ضعف سمعه الذى ظل يتزايد عاما بعد عام، حتى كاد لا يسمع، فلم يعد قادرا على سماع أغانيها، ولم يعد مستطيعا أن يتبين اللحن الموسيقى، وكان أغرب ما يدهشه أنه لا يستطيع الاستماع إلا إلى لحنين فقط من أغانى «سيد درويش»، هما (سالمة يا سلامة) و(شد الحزام)، الأمر الذى جعله يستشير طبيبه الخاص فى هذه الحالة العجائبية، الطبيب الخاص نفسه كان يتعجب من هذا الأمر، فالشعيرات الخاصة بالاستماع للموسيقى فى أذنيه، قد ضمرت تماما، ولا بد أن «نجيب محفوظ» كان يتمنى لو انه يستطيع الاستماع لأغنيتين من أغانى «أم كلثوم» مثل (انت فاكرانى ولا ناسيانى) و(أمانا أيها القمر المطل)، بدلا من (سالمة يا سلامة) و(شد الحزام)، حتى يستطيع أن يستمتع بنعمة الدنيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.