أمس الأحد مرت ثلاث سنوات على رحيل الأستاذ. فى مصر الستينيات التى عشتها وأحببتها وما زالت تمثل فردوسى المفقود. عندما كنا نقول الزعيم كان من يستمع يعرف أننا نقصد جمال عبد الناصر. لا زعيم إلا الزعيم. وعندما نقول الأستاذ فلا بد أننا نقصد هيكل. وإن قلنا الست. فإن الصفة تشير إلى أم كلثوم التى ما زالت الحنجرة الذهبية وسيدة الغناء العربى. احترت ماذا أكتب؟ ومن كثرة ما كتبت عن الأستاذ فى حياته أو بعد رحيله الذى لا أتصوره حتى الآن. فإن زحام المكتوب عندى يجعل الاختيار مستحيلا. ومن عادتى أننى أفكر فيما أكتبه, أيا كان ما أكتبه قبل لحظة الكتابة بأيام. ربما أسابيع أو شهور. أنام وأصحو به. أعيش معه وأتعايش مع كل ما يطرحه علىَّ. ثم حدث أن كنت أمارس هوايتى التى لا هواية غيرها. التجول فى المكتبات وأكشاك بيع الصحف. وجدت أمامى كتاب: أهرام القرن ال 21، ذكريات 50 عاما للأستاذ مصطفى سامى. كانت لدىَّ فكرة مسبقة عن الكتاب. قرأت متابعات صحفية له وأعمدة رأى عنه. ولكن لأن العقل الإنسانى يعمل أحيانا مستقلا عن الإنسان. فإن لحظة وقوع عينىَّ عليه جعلنى أقول لنفسى: وجدته.والكتاب مذكرات من نوع جديد. لا يتمحور فيها كاتبها حول ذاته. ولا يعتبر نفسه أساس الكون. بل يكتب عن الآخرين بقدر كبير من الحنو والحب. ولا تذهب عيناه إلا على كل ما هو جميل وبديع فيمن نعرفهم. ولأنه صحفى أولا وأخيرا فهو يكتب باللغة التى وصفها سلامة موسى لغة الصحافة، اللغة التلغرافية، التى توصل من يقرأ ما يريد قوله بأقل الكلمات بعيدا عن الزخرفات اللغوية أو التشبيهات والأوصاف. يشركنا مصطفى سامى فى كتابه الجميل والممتع وهو يتجول فى ماضيه. لكل كتاب بطل. وكتابنا فريد. يدور بين ثلاثة أبطال: مصطفى سامى، هيكل، الأهرام. وبالتحديد مستقبل الأهرام باعتباره أهم مؤسسة صحفية عرفتها مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر والآن ومستقبلا. يكتب: - يحتاج الأهرام منا إلى وقفة. إلى إعادة النظر فى أسباب تباطؤ عجلة السير، الأمر الذى أصبح يهددها بالتوقف. نريد إصلاح ما فسد. وأن ننظر إلى المستقبل نظرة متفائلة. وأن نقتنع بأن شباب الصحفيين بالأهرام الذين أهدى إليه هذا الكتاب قادرون على إحداث التغيير والنهوض بصحيفتهم. مصطفى سامى مثل كل أبناء جيله، يبدو لك أنه جاء إلى العالم لكى يكون صحفيا. أخذته الصحافة وجعلته يتجول بين فرنسا ثم كندا. ومارس الكتابة ولعب دور المراسل الصحفى والترجمة. لكنى أعتقد أن لغته التى كتب بها الكتاب تستحق أن تُدَرَس فى كليات الإعلام لأنها أوصلت صاحبها من خلال التجربة والعمل اليومى إلى الكتابة الصحفية المثلى. مع إيمانى بأنه لا أحد يصل إلى حدود المثال. أصل إلى هيكل. وهو موجود فى كل صفحات الكتاب. من الصفحة الأولى وحتى الأخيرة التى تتعدى المائتين. باعتباره عبقرية صحفية غير قابلة للتكرار حتى الآن وإلى جانب الصفات المتفردة والاستعداد الشخصى والدأب والمثابرة والمتابعة الدؤوبة لكل ما يجرى. فإن الرجل مر بزمن أخذه الماضى معه ولم يعد له وجود. قد لا يصدق شباب هذه الأيام من الصحفيين أن هيكل رأس تحرير مجلة آخر ساعة وعمره 26 عاما. ورأس مجلس إدارة وتحرير الأهرام، والأهرام هو الأهرام وعمره 34 عاما. تعالوا نهرب من جمل أفعل تفضيل إلى الأرقام. فقد تجاوز توزيع الأهرام المليون نسخة. ولا يقل لى أحد أن كل الصحف التى كانت تصدر فى تلك الأيام كانت متجاوزة. ففى أواخر الستينيات تجاوز توزيع الأهرام كل الصحف القومية والخاصة التى توزع الآن فى سوق الصحافة. بعد خمسين عاما وبعد أن تضاعف عدد سكان مصر. يكتب صاحب الكتاب أن الأضواء التى سلطت على الأستاذ كانت طاغية. تسببت قوتها وتركيزها على ركن واحد من الصورة فى إصابة بعض العاملين فى بلاط صاحبة الجلالة بنوع من العمى وحجب الرؤية عن بقية الصورة. وهو يشير إلى المسكوت عنه فى حكاية عبقرية هيكل. أى ضحايا هيكل. هل ظلم هيكل أبناء جيله؟. إن ضحايا هيكل موضوع مهم. نتركه لمصطفى سامى بعد أن وعد أنه قد يصدر جزءا ثانيا من الكتاب. أو أساتذة الإعلام لدراسته. وهو ليس نتاجا للصحافة المصرية وحدها. فلدينا أو كان لدينا المطرب الأوحد، والمخرج الوحيد، والممثل الفريد، والروائى الذى لا روائى غيره، ولا أعرف هل هى مشكلتنا هنا؟ أم أنها موجودة فى أمكنة أخرى؟ ولا أملك إجابة لأنى لم يقدر لى أن أعيش خارج مصر. ولا حتى جزء بسيط منه. هذا الكتاب ليس عن الأستاذ. ولكنه عن صحيفة الأهرام التى كما يكتب المؤلف وقعت تحت إدارة وسيطرة رجل واحد 17 عاما. أى عقدين إلا ثلاث سنوات. كذلك فهو يقدم المناخ السياسى والصحفى فى ستينيات القرن الماضى. يقدم المؤلف كثيرا من الوجوه الأخرى التى ارتبطت بالأهرام وجاءت إليه أو خرجت منه. لا يجمع بينها سوى أن هناك ما جمع بين أقدار حياتها وقدراتها المهنية وبين الأهرام. وإن كان هيكل قد قاد أهرام القرن العشرين. بدأت تجربة هيكل فى الأهرام أغسطس 1957 وانتهت فى مارس 1974، وهكذا تحول الأهرام من أهرام تكلا إلى أهرام هيكل. فهو صاحب صك إطلالة على القرن الحادى والعشرين. ولذلك أطلق مؤلف الكتاب التعبير الهيكلى كعنوان على كتابه. ولذلك فإن الكتاب يتعدى كونه مذكرات إلى تأريخ وشهادة شخصية. صاحب الكتاب قضى فى أهرام هيكل 14 عاما تحت قيادته. ويكتب الآن أنه متفائل لأن أصواتا كثيرة فى الصحف القومية تجتهد وتحاول أن تجد حلا لأزمة الصحافة الورقية فى الفترة الحالية. متفائل لأن الصحفيين الجدد من الشباب يشعرون بالمسئولية، ولديهم الرغبة فى أن تظل صحافتهم باقية. يختم كتابه بمعاودة الكلام عن الأزمة الاقتصادية العالمية وقلة الإعلانات وزيادة أسعار الورق والأحبار والإعلام الإلكترونى. هذا لا يمنع من مواصلة البحث عن حلول. ويكتب متفائلا: لا بد من حل. لمزيد من مقالات يوسف القعيد