(لم يتركوا حجرا على حجر، ولا رأسا على جسد، لم يرحموا رضيعا ولا شيخا ولا عجوزا، بقروا بطون الحوامل، حرقوا الأخضر واليابس، أخذوا النساء سبايا ومنهم زوجات وبنات السلاطين والملوك كابنة الملك خوارزم شاه (رسالة) التى سباها جوجى ابن جنكيز خان، تركوا خلفهم بلادا خاوية على عروشها، لا بشر ولا حجرولا زرع ولا ضرع).. بهذه الكلمات عبر علماء ومؤرخو المسلمين كابن كثير فى (البداية والنهاية) وغيره عن مصيبة الزحف المغولى لجنكيز خان وأبنائه وأحفاده، خاصة هولاكو، الذى أسقط عاصمة الخلافة العثمانية بغداد عام 656 هجرية، وقتل الخليفة المستعصم بالله وما يُقرب من مليون شخص. ووصف المؤرخون ما حدث بأنه مُصيبة لم يمر على المسلمين أشد منها، وظن الكثيرون فى ذلك الوقت أن نهاية المسلمين قد بدأت، وكتب علماء ومؤرخون مسلمون يَرثُون العالم الإسلامى عاجزين عن الوصف والتعبير عما يحدث. والعجب العجاب أن هؤلاء المغول بدأوا بعد 35 عاما يدخلون الإسلام، بل لم يمض نصف قرن على دخولهم ديار المسلمين إلا وأصبح غالبيتهم مسلمين وفتحوا الكثير من البلاد باسم الإسلام، ونجحوا فى إدخال الإسلام إلى الكثير من البلاد التى لم يطأها المسلمون قبلهم. وليس مستغربا أن يخضع المهزوم للمنتصر، لكن المذهل أن يخضع المنتصر الظافر للمهزوم المقهور، ويعتنق دينه وهو فى أوج قوته وذروة سلطانه. فقد كان التتار عندما دخلوا الإسلام يحكمون معظم المعمورة، وكان العالم الإسلامى أمره فُرطا. ويحاول المؤرخ والمستشرق البريطانى توماس أرنولد فى كتابه "الدعوة إلى الإسلام" فهم ما جرى قائلا: (استطاع دعاة الإسلام أن يجذبوا أولئك الفاتحين المتبربرين ويحملوهم على اعتناق الدين، ويرجع الفضل فى ذلك إلى نشاط الدعاة الذين كانوا يُلاقون من الصعاب أشدها لمناهضة متنافِسَين قويين كانا يُحاولان إحراز قصب السبق فى ذلك المضمار، وليس هناك فى تاريخ العالم نظير لذلك المشهد الغريب وتلك المعركة الحامية التى قامت بين البوذية والمسيحية والإسلام، كل ديانة تُنافس الأخرى لتكسب قلوب أولئك الفاتحين القساة الذين داسوا بأقدامهم رقاب أهل تلك الديانات). كل ذلك وسط ظلم لا حد له كما يقول أرنولد: "فقد أمر جنكيز خان بقتل كل من يذبح الحيوانات على النحو الذى قرره الإسلام، ثم سار على نهجه قوبيلائى فعين مكافآت لكل من دل على من يذبح بهذه الطريقة، حتى أن كثيرا من المُعدَمين وجدوا فى سن ذلك القانون فرصة لجمع الثروة، واتهم الأرِّقاء أسيادهم بهذه التهمة لكى يحصلوا على حريتهم". ووسط هذا الظلام يأتى بركة خان أحد أحفاد جنكيز خان ليكون أول من أسلم من الملوك المغول وحارب هولاكو، وتسببت انتصاراته عليه فى إصابة الطاغية هولاكو بمرض الصرع، ومن شدة حب الظاهر بيبرس له أطلق اسمه على أكبر أبنائه، ومات بركة خان وهو فى طريقه لمحاربة ابن هولاكو. يتشابه مع اختلاف فى التفاصيل والوسائل والملابسات ما حدث من المغول مع ما حدث ويحدث من الأحزاب اليمينية والتيارات المهووسة بالإسلاموفوبيا المعادية لكل ما يمت للإسلام بصلة فى أمريكا وأوروبا وخاصة فى هولندا، ففى هولندا، يوجد أشد الكارهين علنا للإسلام فى أوروبا جيرت فيلدرز (زعيم حزب الحرية اليمينى وعضو البرلمان الهولندى) المعروف بمواقفه المعادية لبناء المساجد ولصوت الآذان والنقاب والحجاب ولكل شعائر الإسلام والمُطالب بطرد كل المسلمين من هولندا وأوروبا قاطبة. لم يكن فيلدرز يتخيل أن يُكذبه ويُسفه أقواله من كان يوما ساعده الأيمن يورام فان كلافيرين (40 عاما). فلم يكن يورام بأقل عداوة للإسلام والمسلمين من رئيسه السابق حتى بعد انشقاقه عن حزب الحرية وتأسيسه لحزب جديد (من أجل هولندا). بل وصل الأمر إلى أن استعد يورام لتأليف كتاب يُشوه به صورة الدين ونبيه صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم وأتباعه. وفجأة يحدث زلزال مدوى وتنفجر قنبلة لا يوجد لها مثيل فى تأثيرها المعنوى المر فى حلوق الكارهين، وتأثيرها الحلو فى حلوق الأتباع، ويُعلن الرجل إسلام!. ليس ذلك فقط، بل يُحول الرجل كتابه من نقد للإسلام إلى دفاع عن الإسلام ويضع له عنوانا مُعبرا: (الارتداد: من المسيحية إلى الإسلام، وسط الترهيب العلمانى). والأمر يبدو عجيبا إذا ما وضعناه فى إطار الحرب على الإسلام والهوان والذل الذى يعيشه المسلمون. لكن يذهب العجب أدراج الرياح لمَّا نسمع قول الله عز وجل: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) "التوبة"، فلو اجتمعت الدنيا على أن يطفئوا نور الشمس وهى مخلوقة، فلن يستطيعوا - بل وسُيتهموا بالخبل - فما بالنا بنور الخالق سبحانه وتعالى. وليس الأمر بمستغرب عندما نسمع ما رواه تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، إلا أدخَله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلامَ، وذلًّا يُذِلُّ الله به الكفر) رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي، وصحَّحه الحاكم والعلامة الألباني. [email protected] لمزيد من مقالات عبد الفتاح أنور البطة;