هو، من كتب عن الظلام أنشودة يُمجِّد فيها الستر القطيفى الحالك الذى يعتق الحناجر فتنطلق فى الغناء ما إن تنقطع كهرباء المدينة، ويشعر الناس بالتحرر فى الخفاء، يعود اليوم إلى تجربة «برجن وبارتون»، التى أجرياها عام 1973، وفيها، راحا يدرسان تأثير اللقاء فى الظلمة على سلوك مجموعات بشرية، تتكون كل منها من أربعة أفراد لا يعرف بعضهم بعضا، أربع فتيات، وأربعة فتيان، يدخلون فرادى إلى غرفة تامة الإظلام ليمكثوا ساعة من الزمن، ثم يخرجوا، ومن ثم تُجمع الملاحظات. فى بعض هذه التجارب، كان الباحثان يخبران المفحوصَين بأنهما سيلتقيان بعد الخروج من الظلام، وفى بعضها الآخر لم يكونا يخبرانهما بذلك. لوحظ أن كل المفحوصين فى حجرة التجارب المظلمة تحدثوا قليلا لكنهم تحركوا كثيرا، وفى الحالات التى عرف فيها المفحوصان أنهما سيلتقيان عند الخروج كثرت الملامسات العرضية، وقلت الملامسات القصدية. أما فى التجارب التى لم يكن فيها المفحوصان يعرف أحدهما الآخر ولا ينتظران أن يلتقيا بعد الخروج، فقد أفاد 80% منهم بأنهم شعروا ببعض الهياج، وتورط العديد فى التقبيل والاحتضان. وكان الاستنتاج: ان كون الشخص مجهولا وغير محدد الهوية فى الظلام الدامس، يدفعه للشعور بحرية تسقط فيها الحدود المجتمعية للتعامل مع الجنس الآخر، من الغرباء. وها هو، وقد أحالته نتائج تلك التجربة إلى ما يمكن أن تطلقه الظلمة من انفلاتات بشرية أخرى أشد، يفكر فى فظاظات لابسى طاقية إخفاء الانترنت لدى كثرة كاثرة من مستخدميه، وشناعات جنوح المنتسبين للتنظيمات والجماعات والأجهزة السرية، أما فظاعات ممارسات المحميين بالسطوة والنفوذ وامتلاك السيوف على أعناق المسالمين العزل، بزعم صلاح الدين أو إصلاح الدنيا، فهم بذاتهم مُظلِمون يعربدون فى ظلمة، فيما يرتكبون فظاعاتهم فى ساطعات النهار، وصارخات الجهر. وهاهو، وحتى يواصل العيش فيما آل إليه العالم من ظلمات تتكاثر، يتشبث بالتفاؤل، فتلك الأغانى التى كتب عن انطلاقها يوما مع انقطاع الكهرباء فى الليل، كانت حقيقة واقعية لم يفعل إلا أن رصد لحظة ميلادها، ولم تكن خارجة إلَّا من رحم تلك « الطبيعة البشرية»، نفسها، التى لم ترصد تجربة « برجن وبارتون» غير ملامح وجهها المظلم، فيما أغنيات الوجه المضيء فى العتمة، لا تزال أصداؤها تترجَّع فى أبهاء روحه، ويستعيد ترجيعها. تلك اللحظة فجأة، انقطع التيار، وأنا فى الشارع سادت الظلمة، وأحسست أننى على غير انتظار أنبعث فى هذا الليل. بدا العالم حولى كأنما ولد من جديد فى هذه اللحظة. بدا طازجا وأليفا من خلال صفاء الظلمة، حتى إن هواء الليل البارد قد استحال نسيما يرطب جبهتى، ويملأ صدرى بالانتعاش. شعرت على نحو مفاجئ أننى أفتقد الحياة، أفتقد الحياة حقا منذ أمد بعيد، وغشَّانى اليقين أننى كنت أحيا سنينى الأخيرة ميتا على نحو ما. شعرت بحاجة هائلة للبكاء المحرق، ووددت لو أجرى صارخا ما أستطيع، دون أن يتعرف عليَّ أحدٌ فى هذه الظلمة. لكننى اكتشفت المدى اللانهائى من الراحة، فى الغناء. راح صوتى يتعثر، حتى سَلِست الدندنات، ثم انبثقت فى فضاء الروح مقاطع الأغنيات الحلوة البسيطة، البعيدة، التى ظننتها ماتت فى نفسى من قديم. أخذ أدائى يشجينى كلما جلوت صوتى بالغناء، وكنت أتمادى فأشعر كأنى أفلت من مراقبة ما، كأنى أعتق من شيء يكبلنى، وأنطلقُ خفيفا خفيفا فى رهافة الظلمة، وبراحها. انتبهت إلى نفسى وقد بلغ شدوى حد ارتفاع الصوت، فسكت متلفتا، أتحسب استغراب الناس الماضين كأشباح فى الظلمة من حولى. لكن هنيهة خجلى تحولت إلى دهشة عندما أرهفت السمع، واقفا فى ظلمة الشارع الكبير. سمعت مايشبه همهمات خافتة، ثم تبينت النغم فى تداخل الأصوات، وكأن أفراد فرقة موسيقية مختفية فى مكان ما يضبطون آلاتهم قبيل ابتداء العزف. رحت أُميِّز اختلاف الأصوات والأغانى كلما مرَّت بى أشباح الناس فى الظلمة: كل شبح بصوت، وكل صوت بأغنية، وكل الأغانى كانت مفعمة بالشجو والشجن. عدت أواصل سيرى والغناء، وكان صوتى يرتعش، وتروغ الأغانى، كلما أوجست عودة التيار بغتة.