نعرف كلنا الآن أن أزمة التعليم قد أطاحت بما كان يسمى الأنشطة الترفيهية والتى كان منها التربية البدنية والتربية الفنية والتربية الزراعية والموسيقى. ومن أبرز أسباب تهميش هذه الأنشطة قلة المبانى التعليمية والتى جعلت المبنى الواحد مستخدما لفترتين دراسيتين مما أدى إلى تقصير اليوم الدراسى، وبالتالى تقليل عدد الحصص المدرسية وكذلك فترة الفسحة. هذا المصير لم يحدث بسبب قلة العوامل المادية فقط ولكن أيضا بسبب سوء نظرتنا إلى التعليم والتى تجعله مقصورا على نقل المعارف وليس على تنمية القدرات. فهذه الأنشطة من حيث تأثيرها فى تنمية قدرات الطفل واكتشاف مواهبه لا تقل أهمية عن الرياضيات والفيزياء واللغات الأجنبية. كما أنها تربط بين العمل النظرى والعمل اليدوى وتساعد الطفل على اكتشاف ذاته. الفلسفة كما يقال لنا عادة هى البحث عن الحقيقة. وهذا التعريف يبدو غامضا، ولكننا إذا ما قرأنا كتب الفلسفة لاستنتجنا أن لها نشاطا أكثر وضوحا يتمثل فى سعيها لإخضاع كل الظواهر البشرية للتأمل والتحليل. فقد لاحظ الفلاسفة أن هناك سمات مشتركة لكل الثقافات الانسانية. إذ توجد لغات مختلفة حسب اختلاف الشعوب ولكن النوع البشرى يتميز باختراع اللغة. مظاهر أخرى نلاحظ وجودها فى كل المجتمعات البشرية مثل الفن والدين والموسيقى. ويسعى الفلاسفة إلى اكتشاف ما الذى يجعل البشر يتعلقون بكل هذه الظواهر؟ وقد ارتبطت الموسيقى بحياة البشر منذ عهود سحيقة، وقد تم العثور على ناى مبرى من عظام الحيوانات عمره أربعون ألف عام، فهل كل هذا الاهتمام ينبع من أن الموسيقى تحقق للإنسان الترفيه والتسلية فحسب؟ وحتى لو كان الأمر كذلك، فهل هذه الغاية هينة أو تافهة؟ تناول كثير من الفلاسفة منذ العصر اليونانى القديم وحتى اليوم ظاهرة الموسيقى، وأضافت العلوم المختلفة اسهاماتها فى تفسير الظاهرة مثل علم النفس وعلم الأعصاب. ولكن يظل للفلاسفة الأوائل قيمة التناول العقلى البكر والواضح لظاهرة الموسيقى والكشف عن أهميتها الكبرى للحياة الإنسانية. فيرى أفلاطون أن الموسيقى «تخلق لقلوبنا نفوسا ولأفكارنا أجنحة» مشيراً بذلك إلى أن الموسيقى تجمع بين العقل والعاطفة والخيال، فهى تقوم على الرياضيات من حيث دقتها، لكنها تترجم مشاعرنا العميقة وتخرج بها إلى حيز التعبير المحسوس أى المسموع. ولهذا جعل الموسيقى مرحلة إجبارية فى بداية السلم التعليمى الذى اقترحه للأطفال فى جمهوريته الفاضلة لأنها سوف تنفع الطفل أيا كانت مهنته فى المستقبل لأنها تعلمه الصبر ونشدان الجمال القائم على الانسجام أو الهارمونية. فكما أن اللغة البدنية ضرورية لبناء الأجسام، فالتربية الموسيقية ضرورية لصياغة النفوس. أما أرسطو ففى كتابه السياسة شدد على ضرورة تعليم الموسيقى فى المدارس، سواء من حيث التذوق أو الممارسة نظرا لأهميتها بالنسبة للشخص، وبالنسبة للحياة الاجتماعية المشتركة . فالموسيقى تعلم الطفل الدقة وضبط الزمن الملائم لإخراج النغمات وهى خاصية سوف تنفعه عند دراسة كل علم. كما بين أرسطو التأثير الأخلاقى للموسيقى، فالإنسان يشترك مع الحيوان فى حرصه على البقاء على قيد الحياة وسعيه للحصول على اللذة، ولكن الإنسان يتميز بطموحه ليس فى أن يحيا فقط ولكن أن يعيش حياة فاضلة، ولا أن يستمتع باللذة فقط ولكن أن يصل إلى السعادة، والموسيقى تلعب دورا كبيرا فى تحقيق هذا الكمال الإنسانى. الفلاسفة المسلمون أيضا اتجهوا إلى تناول الموسيقى وألفوا فيها أعمالا كثيرة تفوق ما أنتجه فلاسفة اليونان. ويرى ابن سينا أن الإنسان مجبول على الاستمتاع بالصوت ذى الإيقاع المنتظم منذ أن كان جنينا فى بطن أمه يستمع ليل نهار إلى نبضات قلبها، أما عن الشعور الجميل الذى يغمرنا حينما نستمع إلى موسيقى جيدة فهو محبب لنا لأنه يختزل الحياة الإنسانية، فهو يجمع بين الندم والأمل: الندم على النغمة الجميلة التى انتهت، الأمل فى النغمة الجميلة التى ستأتى. أما الفارابى ففى مؤلفه كتاب الموسيقى الكبير يستفيض فى بيان الدقة الرياضية للنغمات الموسيقية، لكنه أيضاً يشير إلى أن الموسيقى تهدف إلى تزكية المشاعر النبيلة وتدفع الإنسان دفعاً لأن يضع لنفسه غايات سامية فى الحياة. فى كل بلاد العالم تحتل الموسيقى موقعا مهما فى بداية السلم التعليمى للأطفال، ولكن للأسف فى بلادنا لم تطح الإدارة التعليمية بحصص الموسيقى فحسب، لكن أطفالنا جاءهم معلمون ذوو نزعة دينية محافظة ليقولوا لهم إن الموسيقى حرام، أو إنها صوت الشياطين! وتدور اليوم مناقشات جادة حول سبل إصلاح التعليم فى مدارسنا، ويشير كثيرون، وهم على حق، إلى أزمة الأبنية التعليمية، و إلى تطوير الكتاب المدرسى، وإلى ضرورة إعداد المعلمين ولكن قليلا منهم فقط يشير إلى ضرورة عودة هذه الأنشطة «الترفيهية» وعلى رأسها الموسيقى إلى مدارسنا. لمزيد من مقالات د. أنور مغيث