حينما كنت طالباً بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة، كنت أبحث عما هو متاح من الترجمات العربية لمحاورات أفلاطون وكتب أرسطو، وكان الحصول عليها صعباً، فهى لا توجد سوى فى المكتبات العامة، وإذا أسعدنا الحظ ربما نجدها فى سور الأزبكية. وحينما سافرت لإعداد الدكتوراه فى فرنسا، لاحظت أن الترجمات الفرنسية لهذه الكتب موجودة لدى باعة الكتب فى كل مكان وبأسعار زهيدة، ويعاد طبعها فى طبعات شعبية كل عام. وهذه الطبعات تصدرها دور نشر خاصة تهدف إلى الربح وليست مدعومة من الدولة، وهو ما يعنى أن هناك إقبالاً عاماً عليها وقراءتها ليست مقصورة على طلاب الفلسفة وحدهم. وما يدعو للدهشة هو أن هذه الكتب تم تأليفها منذ 2500 عامً. ما الذى يجعل هذه النصوص تحيا وتجتذب القارئ حتى يومنا هذا؟ من السهل أن نتصور أن نصوصاً قديمة أدبية مثل الأوديسا أو المعلقات السبع، مازال لها سحرها إلى اليوم لأنها ببساطة أعمال أدبية. ومن الصعب أن نتصور أن كتباً علمية تحوى نظريات مثل دوران الشمس حول الأرض فى فلك بطليموس يمكن أن تكون لها قيمة فى عصرنا هذا، فنظريات العلم الحديثة تحول النظريات القديمة إلى مجرد خرافات عفى عليها الزمان. أما كتب الفلسفة فهى ليست أعمالاً علمية، وليست نصوصاً أدبية، ورغم ذلك تحتفظ بجاذبيتها إلى اليوم. فى الواقع تحقق قراءة النصوص الفلسفية ثلاثة أغراض هى المتعة والمعرفة والحكمة. ورغم تطور الحياة الإنسانية بكل تعقيداتها وتفاصيلها الصغيرة، فإن أسئلة الفلسفة القديمة لا تزال مطروحة. التطور والتغير يحدث فى الإجابات.تفعندما نسأل عن معنى العدل، فأننا نندهش من تعدد الجوانب التى ينظر بها أفلاطون فى محاورة الجمهورية لهذا الموضوع. وحينما نتساءل عن أفضل نظم الحكم يبهرنا حصر أرسطو عشرات التنوعات فى نظم الحكم ولكل منها مزاياه وعيوبه.وماذا عن الفلاسفة العرب؟ ويفصل بيننا وبينهم أكثر من ألف عام. وقد درسناهم وعرفنا مذاهبهم فى أقسام الفلسفة. ولكننا وقعنا تحت تأثير أحكام مسبقة أوجدت حاجزاً يحول دون إدراكنا لقيمتهم الحقيقية. فقد شاع اعتقاد بأن المترجمين نسبوا كتاباً كتبه الفيلسوف الصوفى السكندرى أفلاطون إلى أرسطو، فظن الفارابى أن آراء أرسطو فى الفلسفة قريبة من آراء أفلاطون، ولهذا ألف كتابه «فى الجمع بين رأيى الحكيمين». وهذا الاعتقاد يؤدى إلى أن الفلسفة العربية بأسرها قد تأسست على نوع من سوء التفاهم. ولكن الأبحاث التى قام بها فلاسفة معاصرون مثل ليو شتراوس تبين أن هذا التوفيق كان استراتيجية مقصودة، وليس نتيجة لاعتقاد خاطىء. كما روج المستشرقون إلى فكرة أن الفلاسفة العرب لم يكونوا سوى مجرد شراح لأعمال الفلاسفة الأغريق ولم يضيفوا إليها شيئاً جديداً، وهو اعتقاد شاع فى القرن التاسع عشر، ولكنه اليوم أصبح مرفوضاً من أغلب المتخصصين فى فكر العصور الوسطى. وكان مما وجهنا إلى القراءة الخاطئة للفلاسفة العرب هو أننا كنا نبدأ فى قراءتهم ونحن منطلقين من سؤال: فى أى شيء يتفقون مع الدين وفى أى شيء يختلفون عنه. حينما كنت أدرس الدكتوراه فى باريس، طرح علينا موضوع الفلاسفة والموسيقي. وتطوعت بأن أقدم لزملائى فى الدراسات العليا محاضرة عن آراء الفلاسفة العرب فى الموسيقي. فشرعت فى قراءة كتاب الموسيقى الكبير للفارابي، ومجلد الشفاء لابن سينا عن الموسيقي، ورسالة إخوان الصفا والفصل الخاص بصناعة الموسيقى والغناء فى مقدمة ابن خلدون، وجدت نفسى أمام موضوع بديع لم نتطرق إليه فى دراستنا التقليدية. يكشف لنا عن رهافة الحس وعمق التأمل لدى الفلاسفة العرب أمام ظاهرة الموسيقي. فيحلل الفارابى لحظة الاستمتاع بالموسيقى إلى أنها لحظة تختصر الحياة الإنسانية بأسرها، لأنها تجمع بين الندم والأمل. فالموسيقى هى صوت ثم صمت ثم صوت. وهكذا فالإنسان حينما يستمع إلى الموسيقى يشعر بالندم على نغمة جميلة ولت، ولكن يحدوه الأمل فى نغمة جميلة تعقبها. ويرى ابن خلدون أن المكانة العالية التى يحتلها الموسيقيون فى المجتمع دلالة على الرقى فى التحضر والاستهانة بهم دلالة على الهمجية والتخلف. بهذه الروح أشار على بن مخلوف استاذ الفلسفة فى جامعة باريس فى كتابه «لماذا نقرأ الفلاسفة العرب؟» إلى ما هو مبتكر لديهم لم يتناوله فلاسفة اليونان وما هو حى ما زال يشغل بال الفلاسفة المعاصرين مثل تأويل النص الدينى ليتفق مع العقل، والتمييز فى الطب بين العلاج والشفاء، وشروط العيش المشترك فى المدينة الفاضلة، وإخضاع القول المجازى لأحكام المنطق بعد ان استبعده أرسطو. إن قراءة الفلاسفة العرب سوف تحقق لنا ماتحققه قراءة فلاسفة اليونان: المتعة والمعرفة والحكمة. لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث