وإذا تذكرنا الواقع المحبط الذى يكاد يكون نقيضًا للجامعة التى تخيلها وعمل من أجلها طه حسين وأبناء جيله، وجدنا أن طه حسين يضع يده على جرثومة الفساد التى أدت إلى انهيار الحياة الثقافية فى مصر وتضاؤل مكانتها، وسيطرة جماعات الإسلام السياسى عليها. وهى أسباب ترجع إلى غياب الحرية وارتفاع درجات الاستبداد التى أطاحت بحلم طه حسين عن حياة ثقافية ديموقراطية، وعن دولة مدنية حديثة، لوازمها المواطنة والحرية والعدل الاجتماعى. ويبدو أن طه حسين كان واعيًا لذلك كل الوعى؛ ولذلك فإنه يتوقف فى كتابه عن العلاقة بين الثقافة والحرية، فيرى أن تقدم الثقافة هو جزء أو نتيجة مترتبة على تقدم التعليم من ناحية، وتطور الإنتاج العقلى فى مصر من ناحية موازية، وكلا النوعين من الإنتاج قليل فى الكم وفى الكيف على السواء. فلم يكن ينبغى لحياتنا العقلية أن تنتج هذا الكم القليل الضئيل من الثقافة، بل كان ينبغى أن تنتج أكثر جدًّا مما أنتجت، وأن ترفعنا إلى منزلة أرقى من المنزلة التى نحن فيها من الثقافة العالمية. ويؤكد طه حسين أن فى العالم أممًا اتصلت بالحياة الحديثة فى الوقت الذى اتصلنا بها فيه، أو بعد هذا الوقت بزمن قصير، ولكنها كانت أسرع منا إلى الانتفاع بهذا الاتصال الثقافى، وأقدر منا على أن تفرض نفسها على الحياة الحديثة، وتدفع الأمم المتقدمة إلى أن تجتهد فى معرفتها، ثم إلى أن تجد فى هذه المعرفة متعة ولذة، ثم إلى أن تترجم عنها إلى لغاتها المختلفة. «وما أظن أن هذه الأمم قد خلقت من جوهر أرقى من جوهرنا.. وإنما أتيحت لها ظروف لم تتح لنا، وبعض هذه الظروف خارجى لا نسأل عنه إلا بمقدار، وبعضها داخلى نُلام عليه أشد اللوم، وليس هذا الكتاب إلا صورة لما نستحقه من اللوم على ما ورطنا فيه أنفسنا من تقصير». هذا التقصير يرجع بعضه إلى الاستعمار التركى الذى جثم على صدر مصر ما يقرب من خمسة قرون، كما يرجع إلى الاستعمار الإنجليزى الذى تحكم بدوره فى مصر قدرًا غير قليل من السنوات، ثم إلى طبيعة النظم السياسية التى تحكمنا، متضافرة مع الظروف الاقتصادية التى لا تزال تتحكم فى حياة المصريين. ومن المحقق - فيما يقول طه حسين- إن: «الإنتاج الأدبى صناعة لا تقوت صاحبها ولا تقيم أوده فى مصر، كما يقول الفرنسيون، فإذا طلبت إلى الأدباء أن يفرغوا لهذا الإنتاج، فقد طلبت إليهم أن يفرغوا للبؤس والجوع». ولا يقتصر حال الأدباء أو المثقفين فى مصر على سوء أوضاعهم الاجتماعية فحسب، وإنما يتجاوزه إلى سوء أحوالهم السياسية. فالأدباء أو المثقفون المصريون لا يجدون ما يدعمهم من أبناء الشعب أو من الدولة على السواء. وهذا هو السبب الأساسى الذى يجعلهم يفتقدون أهم ما يلزمهم فى الإبداع أو الكتابة؛ «فالأدباء عندنا ليسوا أحرارًا، لا بالقياس إلى الدولة ولا بالقياس إلى القراء. وما أكبر النبوغ الذى يضيع ويذهب هدرًا؛ لأنه يكظم نفسه، ويكرهها على الإعراض عن الإنتاج خوفًا من الدولة أو خوفًا من القراء، فليس كل موضوع يعرض للأديب عندنا تسيغه القوانين ويحتمله النظام، ويرضى عنه ذوق الجمهور». ويؤكد طه حسين أن ما يباح للأدباء أن يتعرضوا له وينتجوا فيه أقل جدًّا مما يحظر عليهم أن يتناولوه ويخوضوا فيه. وما أكثر الذين يعيبون على أدبائنا أنهم لا يتصلون بالشعب ولا يصورون حياته؛ لأنهم يتكلفون الأرستقراطية ويتصنعون الامتياز أو التميز عن الشعب. «ولكن دع أدباءنا يتصلوا بطبقات الشعب فيصوروا آلامها وحياتها البشعة، ثم انتظر بعد ذلك ما سيصبّ عليهم من اللوم، وما سيهيأ لهم من الكيد وما سيوجه إليهم من التهم، وما سينالهم من المكروه». ويمضى طه حسين فى نفى العيوب عن الأدباء المصريين؛ لأنهم لا يعنون إلا بظواهر النفوس، ولا يصورون دخائلها، ولا يتعمقون ضمائرها، ولا يرسمون شيئًا من ذلك فيما ينتجون، لكن ذلك كله بسبب خوفهم أن يظهروا النفس عارية كما يفعل زملاؤهم الأوروبيون، وهم قادرون بالفعل. لكن ماذا يمكن أن يصيبهم من 1- الجمهور، 2- رجال الدين، و 3- إدارة الأمن العام والنيابة من المكروه والعقاب. والنتيجة الأولى التى تترتب على ذلك هى ضرورة أن يتحرر الأدب والأدباء أو المثقفون بوجه عام، وأن تتاح لهم حرية الكتابة أو القول فى كل ما يشعرون به ويجدون الحاجة إلى القول فيه، إذ يجب أن تكون قوانين سمحة، وأن يكون تطبيقها سمحًا، وأن يكون ذوق الجمهور عندنا سمحًا كذلك. ولو حدث ذلك فسوف يتحرر الأدب أو تتحرر الكتابة بوجه عام. صحيح أن هذه الكتابة سوف يكون فيها الغث والسمين، والمحمود والمرذول، ولكن الحياة وحدها هى التى ستبقى على النافع الذى يفيد، وتستبعد السخيف والعارض أو المرذول الذى لن يقاوم عوادى الدهر، ولن يقوى على البقاء. وإذن «فلحرية الرأى شرها أحيانًا لكن لها خيرها دائمًا، ونفع الحرية أكثر من ضرها على كل حال، وما أشك أن كثيرًا من الآثام الفردية والاجتماعية سيزول أو تخف أضراره إذا أتيح للأدباء أن يتناولوه بالنقد والتحليل، وبالعرض والتصوير. وما أشك فى أن قوانيننا حين تتشدد فى مصادرة ما تصادر من حرية الأدب لا تحمى الفضيلة، وإنما تحمى الرذيلة وتخلى بينها وبين النفوس». هذا المبدأ العام لا ينطبق على الأدب وحده، وإنما ينطبق على الصحافة والسينما وغيرهما من أنواع الإبداع والكتابة، فكل أنواع الإبداع والفكر ينبغى ألا تُحَد حريتها، خصوصًا من الدولة؛ بأدواتها الممثلة فى إدارة الأمن العام أو إدارة المطبوعات أو الرقابة التى تقيد هذه الحريات. وما يريده طه حسين، تحديدًا، هو أن تنظم هيئات من المثقفين تشرف من بعيد على الصحافة والسينما أو الراديو، ولكن دون أن تتدخل فى حرياتها الداخلية، أو تكون صدى لاستبداد الدولة إذا وصل الحكم إلى حد التحكم والاستبداد أو وقع فى الرجعية والجمود. ومن المؤكد أن مثل هذه الرقابة الداخلية يمكن أن تفيد السينما التى يراها الكبير والصغير الذى يحتاج إلى حمايته من بعض ما تحمله السينما من قيم عارضة تحتاج إلى نوع من الرقابة، لكن هذه الرقابة لا ينبغى أن تكون أمينة فحسب، إنما ينبغى أن تكون حضارية بالمعنى الواسع لكلمة حضارة. فالأصل فى الإبداع، بوجه عام، هو الحرية التى رآها طه حسين الشرط الأول لتقدم كل ثقافة وأساس كل تعليم أو نهضة كل جامعة؛ فالحرية هى الأصل الذى يحرر العقل، وهى الدافع الذى يساعد على تهيئة أفضل مناخ للتأليف أو التفكير؛ فالتاريخ يقول لنا إن جامعات الأمم المتقدمة - التى نحلم بالوصول إلى مستواها- لم تبلغ ما وصلت إليه إلا بما ناضلت من أجله من مناخ حر ينبنى على التنوع الخلاق وقبول الاختلاف دون قهر أو قمع. كما أن الثقافة نفسها لا بد أن تتمتع بهذه الحرية حتى تنهض فى كل مجال من مجالاتها؛ ابتداء من التعليم وانتهاء بإبداع ألوان الفنون المختلفة. هذه الحرية السياسية والاجتماعية والإبداعية هى ما كانت تحول بين الشعب والوصول إلى تحقيق أحلامه فى الثقافة وارتقاء شأنها والتعليم وتطلعه المتقدم. ولذلك يؤكد طه حسين أنه معجب بالمثقفين المصريين المعاصرين له، أو الذين سبقوه أو الذين جاءوا من بعده؛ «فهم قد بذلوا الجهد، واحتملوا من العناء ما لا يشعر به المعاصرون لهم، وما سيقدره لهم التاريخ حق قدره. نشأوا فى بيئة معادية للثقافة أشد العداء، ممانعة لها أشد الممانعة. وقد بدأوا بأنفسهم فحرروها من كثير من التقاليد الثقيلة الفادحة حتى عدّتهم بيئتهم شواذا، وقاومتهم ألوانًا من المقاومة، فلم يهنوا ولم يضعفوا، وإنما مضوا أمامهم لا يلوون على شئ حتى كتب لهم النصر. قاومهم الشعب؛ لأنه لم يفهم عنهم، وقاومهم السلطان الظاهر؛ لأنه أشفق منهم، وقاومهم السلطان الخفى؛ لأنه رأى فيهم قادة الحرية والهداة إلى الاستقلال. فثبتوا لهذا كله وانتصروا على هذا كله وخرجوا من المعركة ظافرين». ويتحدث طه حسين عن الجيل الذى انتسب إليه، أو ما يسميه مدرسة «المحدثين» فى مقابل الجيل الذى سبقهم، وهو الجيل القديم الذى كان يتخذ الأدب وسيلة إلى كسب القوت، ثم كسب الثروة والحظوة عن الكبراء وأصحاب السلطان وعند الأغنياء والموسرين، مهدرًا فى سبيل ذلك كله كرامته وحريته ورأيه وشعوره. أما جيل طه حسين وهو جيل المحدثين، فهو «جيل آثر الحرية والكرامة على كل شىء». فلم يتخذ الأدب إلا سبيلًا إلى لذته العقلية ومتعته الفنية، وإلى إيقاظ الشعور وتنبيه الشعب إلى حقه وواجبه، وتنقية الذوق، وإذاعة الحياة العقلية الجديدة فى مصر بوجه عام. وتحمل هذا الجيل من المحدثين كل المصاعب التى وضعت أمامه فلم يخف من سلطان، ولم يجعل من أدبه أو ثقافته سلعة من السلع التى يمكن أن تعرض للبيع، وإنما رأى الأدب صورة النفس وفيض العقل وخلاصة القلب، فآثره كما يؤثر نفسه وعقله وقلبه، والتمس الحياة المادية بوسائلها وسلك إليها طرقها المألوفة: «فمن هؤلاء المثقفين من التمس الحياة من العمل فى الدواوين، ومنهم من التمسها من العمل فى الصحافة، ومنهم من التمسها فيما شاء الله فى الصناعات الحرة والأعمال الكريمة، ومنهم من التمسها فى البحث العلمى داخل الجامعة». ولم تكن حياة هذا الجيل من المحدثين حياة هينة؛ فقد ثبت لمقاومة الشعب وتنكر السلطان وكيد السياسة حتى كتب له النصر على كل ذلك، وظفر أبناء هذا الجيل من المحدثين بما وصل إليه من نجاح بعد احتمال ما ناله من العنف وما اضطر إليه من الضيق، وما خضع له من الفتنة، فى أنفس أبنائه وفى أخلاقهم، وفى حريتهم وفى صحفهم. فقد اضطر بعض هذا الجيل إلى الجوع، ومنهم من عرف الفقر ومنهم من ذاق حياة السجن، ومنهم من تعرض لألوان من الخطر أشد من هذا كله وأسوأ. وقد احتمل جيل المحدثين من الأدباء والمثقفين كل ذلك فثبتوا له وظهروا عليه، «فإذا سألت بعد ذلك عما لقى هؤلاء الأدباء المحدثون من معونة الدولة وتأييد الشعب، لم تجد شيئًا ولم تكد تجد شيئًا». ولذلك يرى طه حسين عام 1938 أنه قد آن الأوان للدولة وللشعب معًا أن يعرفوا للأدباء المحدثين حقهم عليهم لا إيثارًا لهم بالخير، ولا ضنًّا بهم على المكروه، بل تمكينًا لهم من الفراغ للإنتاج الأدبى والفنى الذى ذاق الشعب لذته وأصبح لا يطيق الاستغناء عنه. ومع ذلك فإن هذا الجيل المحدث لم يصل إلا إلى ما هو أقل من 10% من السكان، وأن أكثر القارئين لايزالون مصروفين عن القراءة إلى الكسل فلا نصفهم بالقارئين، بل المتعلمين من السكان المنصرفين عن القراءة إلى الكسل؛ لأن التعليم القائم لم يزين فى قلوب أبناء هذا الشعب من المتعلمين حب القراءة. ولذلك فإن المحدثين إذا ألّفوا أو ترجموا فإنما يبلّغون عددًا قليلًا جدًّا من القراء. ولذلك فإن هذا جيل طه حسين يسعى إلى تعميم ثقافة جديدة وإلى نشرها بين السكان، وإلى أن يجد أنواعًا جديدة من الكتابة توسع من دائرة القراءة، ومن دائرة الثقافة فى الوقت نفسه؛ تحديًا لكل الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وعندما يصل التطور بمصر إلى أن توقع معاهدة الاستقلال فى عام 1936 ومعاهدة إلغاء الامتيازات الأجنبية فى عام 1937، ويشعر أفراد هذا الجيل بعزة الاستقلال عن المحتل وبكرامة المصرى إزاء إلغاء الامتيازات الأجنبية، ويدرك أنه حرٌ فى وطن حر، فلن تكتمل له معانى هذه الحرية إلا إذا تواصل مع أكبر عدد من القراء، ودفع الدولة إلى أن تتيح التعليم لأكبر عدد من أبناء مصر، وتحويله إلى عطاء مباح كالماء والهواء حقًّا لكل مواطن من أبناء الشعب المصرى، ليتعلم أبناء هذا الشعب قيم الحرية والمواطنة التى زرعها دستور 1923 فى نفوسهم، فيدفع كاتبًا مثل طه حسين إلى الحلم بمستقبل بهيج للثقافة المصرية، حلم بأن يرى شجرة الثقافة المصرية باسقة، قد ثبتت أصولها فى أرض مصر، وارتفعت فروعها، وامتدت أغصانها فى كل اتجاه، فأظلت ما حولها من البلاد العربية، وحملت إلى أهلها ثمرات العقل والروح النضرة الوارفة فاستظل بها جميع العرب الذين يأخذون بحظهم منها مثل المصريين، لا فارق بين غنى فيهم وفقير، أو قوى وضعيف، أو شاب وكهل. تتغلغل لذة هذه الثقافة حتى تبلغ أعماق النفوس وتنشر نورها حتى تضىء القصور والدور والأكواخ وتشيع فى مصر كلها حياة جديدة، وتصبح مصر جنة الله فى أرضه، يسكنها قوم سعداء لا يؤثرون أنفسهم بالسعادة، وإنما يشركون غيرهم فيها. «هذا حلمٌ رائعٌ جميل تمضى فيه نفس هائمة تحب مصر وأهل مصر... ولكنه حلم يسير التحقيق قريب التعبير، فإن مصر التى انتصرت على الخطوب، وظفرت بحقها من أعظم قوة فى الأرض...، خليقةٌ أن تنتصر على نفسها وتَظْهر على ما يعترض طريقها من العقاب، وترد إلى نفسها مجدًا قديمًا عظيمًا لم تنسه ولن تنساه». لمزيد من مقالات جابر عصفور