صحيح أن رهان الوجود الإيجابى للإنسان تتجلى دلالته فى حضور نور عقله وإنجازاته، ويعد ذلك حكم قيمة مفاده أن الإنسان يستطيع أن يصوغ المستقبل كما يتصوره، من خلال استثماره عقله الذى يعد نور العالم، وصحيح أيضًا أن كل قطيعة أو منعطف لهذه الثنائية، يزلزل وجود الإنسان، حيث حضور الفرد كذات عاقلة مستقلة شرط لقيام مجتمع الأفراد وأمثاله وأنداده، ولأن الوجود الحقيقى للإنسان يرتبط بفعالية حقوقه، بمفاهيم ناضجة قادرة على إنتاج الفكر دون حجب أو قهر؛ لذا عندما تغيب الحقوق يغيب الإنسان، وتتبدد أعظم آماله وإمكاناته، وعندما يتحقق ارتباط العقل بالمعرفة وبالواقع، تتبدى أهداف الديمقراطية التى تتطلب لتحقيقها أساليب ديمقراطية، تحقق التوازن بين الكفاءة والعدالة الاجتماعية، وتؤكد التكامل بين التنمية والإنصاف؛ إذ يقود التمسك بالديمقراطية فى المجالات كافة استيعابًا للكفاءات وتحقيقًا للمشاركة. لكن الولاياتالمتحدةالأمريكية طالبت الأممالمتحدة بأن تكف عن إجراء مؤتمرات عالمية، تسهم فى زيادة نفاذ تأثير المنظمات غير الحكومية، بوصفها مظهرًا لنمو المجتمع المدنى العابر للقوميات، غير المرتبط بالحكومات، وجاء ذلك المطلب الخاص بناء على قرار الكونجرس الأمريكي، فى سياق مطالبته بإصلاح منظمة الأممالمتحدة، كشرط مسبق لدفع المستحقات المالية الأمريكية إلى الأممالمتحدة. وقد بدأت عام 1998 حملة كاملة للحد من نفاذ المنظمات غير الحكومية فى الأممالمتحدة، وفك دلالات هذا الإجراء يتجلى خلال رصد التوالى المتنامى لأنشطة تلك المنظمات غير الحكومية, إذ سجل اتحاد المنظمات غير الحكومية أكثر من خمسة عشر ألف منظمة غير حكومية عابرة للقومية، اتسعت بينها شبكة التداولات والتحالفات فى اتخاذ قراراتها، دفاعًا عن القضايا العامة الدولية، إنصافًا لحق الشعوب وخيرها العام. إن هذه المنظمات تحملت مسئولية كشف ألاعيب التضليل، والاستباحة، وأساليب سرقة الوعى والحقوق، بتصديها لكل العوائق النافية لتلك الحقوق. لذا تكونت فى جامعة بروكسل الحرة رابطة الدفاع عن حقوق الناس، من أجل المساهمة بحثًا عن نظام جديد يخدم تطلعات البشرية وطموحاتها فى الأمن والعدالة والسلام، وقد أصدرت هذه الرابطة عام 1995 كتابًا بعنوان: الأممالمتحدة: الشرعية الجائرة، شارك فى إعداده: باتريسيو تولاسكو، وأنمى شاوس، وآلان ديمس، وترجمه إلى العربية د. فؤاد شاهين، صحيح أن المؤلفين قد تناولوا قضايا قانونية وتشريعية بحرص لا يخلط بين السياقات الموضوعية، أو إجبار الدلالة أن تكون فى مصلحة المضمر المفتعل، لكن الصحيح أيضًا أنه فى عام 2009 صدر فى الولاياتالمتحدة كتاب بعنوان: هل الديمقراطية قابلة للتصدير؟، والسمة التى تميز هذا الكتاب أنه جهد أربعة عشر من علماء السياسة الأكاديميين، صحيح أنهم بسؤالهم الذى اتخذوه عنوانًا للكتاب يستهدفون إنسان الحق؛ لذا فإنهم يتحاورون، يقبلون، ويرفضون، يدافعون ويهاجمون, انطلاقًا من أن الحوار محرك التاريخ، وأن انقطاع الحوار يحجب الحقائق؛ عندئذ يسقط المجتمع فى الصمت، فيبدأ الأدعياء بخلق الأوهام كبادرة للاستبداد، إذ هشاشة إرادة المجتمع تفتح الباب أمام هؤلاء الأدعياء، لتصبح مماحكاتهم ومواربتهم أفضل المبادرات والتغيرات والانقلابات، لكن الصحيح أن ما يصدره الوعى المجتمعى العام، يعكس حضور إرادة المجتمع بتحديد المقبول والمرفوض، لأن هذا الوعى العام هو صانع الحدث العام والتاريخ، انطلاقًا من أن الديمقراطية فى طرحها حقوق الإنسان، تؤكد أن الإنسان يعد حقًا فى ذاته، ثم لأنه أيضًا محصلة لجهود الترقى الشامل: لذا فهو الإنسان المدني، لذلك نجد أن الكتاب يهتم بالمجتمع المدني؛ بل يؤكد أهميته بوصفه: يعزز التفاعل الاجتماعي، ويسهل نشوء الثقة، ويزيد من التضامن والحس المشترك، كما يعلم المشاركة فى المجتمع المدنى المواطنين الالتزام، والانفتاح، وتقوم فى الوقت نفسه بتدريب الناشطين والقادة على متطلبات الديمقراطية، فضلاً عن إرساء الأسس لنجاح التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومع ذلك يشير الكتاب إلى أن: أكثر الأمور إشكالية هو الاتجاه نحو التركيز على المجتمع المدنى بمعزل عن الدولة، والإطار المؤسس الأوسع الذى يعد جزءًا لا يتجزأ منه، وقد أسهم هذا الاتجاه فى منح صورة من التفاؤل عن المجتمع المدني، فضلاً عن سوء فهم الدور الذى يمكن أن يمارسه فى تعزيز الظروف الاجتماعية والسياسية التقدمية أو المفيدة، كما أنه فى ظل ظروف معينة يمكن أن يمارس المجتمع المدنى دورًا رئيسًا فى بروز الحركات السياسية المتطرفة المعادية للديمقراطية، ويسهل الصراع الاجتماعي، وممارسة العنف بدلاً من تعزيز الديمقراطية والانسجام الاجتماعي. يضم الكتاب قدرًا كبيرًا من التأويلات والتحليلات بوقائعها، كشفًا للاستعصاءات التى واجهتها الديمقراطية، وتأثير إسهام الولاياتالمتحدة فى الحملة العالمية من أجل الديمقراطية، بإنشائها منظمة الوقف الوطنى للديمقراطية، وهى منظمة غير حكومية يمولها الكونجرس الأمريكى والحزبان الديمقراطى والجمهوري، لتقديم الدعم والتعزيز للمؤسسات المناصرة للديمقراطية عالميًا، لكن أمسى التشكيك بهذه المنظمة ونياتها واسعًا، إذ تبدت هذه المنظمة بوصفها آلية أمريكية لغزو المجتمعات والسيطرة عليها، بعد نجاح الولاياتالمتحدة فى الحد من نفاذ المنظمات غير الحكومية فى الأممالمتحدة، ومع ذلك بدأت حملة تعزيز الديمقراطية عالميًا. لا شك أن هذه الديمقراطيات الغربية عبر تجاربها الحافلة، لم تستطع أن تقرأ العدالة إلا من خلال أنظمة للمساواة متفاوتة، كما ظلت الديمقراطية حبيسة حكم الأقلية، إذ لم تصل إلى حكم الأغلبية، إلا باستخدامها أوضاعًا مناقضة للديمقراطية، حين تخاصم السياسة الأخلاق، وتمارس سلطان المواربة بهيمنة مدعومة بصناعة الأوهام المتوجة بالاقتدار البارع تمويهًا وإرغامًا، مستهدفة فى الحقيقة قطيعة تواصلية مع الديمقراطية. لكن الذى لا شك فيه أن البلاد الديمقراطية الفاعلة، التى لا تعد - فى الحقيقة- نقيضًا مضادًا للديمقراطية، والتى لا تتاجر بها، هذه البلاد تستطيع أن تؤثر إيجابيًا فى المصير الإيجابى الديمقراطى فى البلاد التى تنتهج الديمقراطية حديثًا، إيمانًا بأن الديمقراطية المعرفية وحدها، هى القادرة على نقل الحقوق- كالمساواة، والعدالة، وحرية الإرادة- من الصمت إلى الكلام حتى تصبح سندًا ومراسى لإعمال العقل، عندئذ تصبح الديمقراطية قابلة للتصدير فى ضوء نور العقل. فالحقوق لا تمنح, بل تسترد، إذ تحاصرها الاستيهامات المضادة ماثلة لا تحد، تختطف الحقائق، وتضخ التكاذب والمواربة والزيف والتعمية، ورهانها طرد الحق. لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى