مع مرور عامين على حكم الرئيس ترامب للولايات المتحدة يثار التساؤل حول ملامح وخصائص السياسة الخارجية الأمريكية وتداعياتها العالمية والإقليمية، وهل هناك تغيرات كبرى فيها أم أنها ظلت فى إطار الآليات مع ثبات الأهداف. الواقع أن الرئيس ترامب يشكل ظاهرة استثنائية فى التاريخ الأمريكي، ليس فقط لكونه جاء من خارج النخبة والمؤسسات التقليدية، حيث جاء من عالم مجتمع المال، وهو ما جعل عقيدته فى السياسة الخارجية تقوم على مفهوم الصفقة، أى تحقيق اكبر قدر من المكاسب وتقليل الخسائر، وليس فقط لحجم الاستقالات والإقالات غير المسبوقة فى تاريخ الإدارات الأمريكية، حيث يدير ترامب السياسة بمنطق الشركة وصاحب الأعمال، حيث السهولة فى الإحلال والإبدال فى المساعدين وكبار المسئولين وفقا لتوافقهم مع توجهاته وسياساته، وليس فقط لإدارته السياسة الخارجية عبر تغريداته على توتير، وإنما الأهم هو تعدد الرؤى الأمريكية فى ظل هذه الإدارة حول السياسة الخارجية، فهناك رؤية ترامب للعالم تقوم على فكرة تعظيم شعار «أمريكا أولا»، وهو ما يعنى الاتجاه نحو العزلة والتعامل مع القضايا والأزمات العالمية من زاوية تخفيض الأعباء وعدم الانخراط الكامل فى تلك الأزمات، وهو ما كان سببا فى سياسات الانسحابات التى اتبعها ترامب، مثل الانسحاب من اتفاقية التغير المناخى أو الانسحاب من الشراكة الاقتصادية عبر المحيط الهادى وكذلك منظمة اليونسكو وأخيرا قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا. كما كان مبدأ «أمريكا أولا» وراء الحروب التجارية التى أعلنها ترامب بفرض رسوم جمركية على واردات الولاياتالمتحدة من الصلب والألومنيوم من الصين والدول الأوروبية، والتى ردت فى المقابل بفرض رسوم على السلع الأمريكية، حيث اعتبر ترامب أنه يجب تعديل الميزان التجارى فى صالح الصين والذى يصل ل600 مليار دولار لأن الصين تنتهك حقوق الملكية الفكرية الأمريكية، وبالنسبة لأوروبا اعتبر أن أمريكا تحمى أوروبا امنيا بينما تتجه أوروبا لتعظيم مصالحها الاقتصادية مع روسيا. وفى المقابل هناك رؤية المؤسسات الأمريكية التقليدية، وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية ومجلس الأمن القومى بل والكونجرس الأمريكي، للسياسة الخارجية والعسكرية وتتمثل فى تأكيد المسئولية الامريكية العالمية التى تفرض انخراطا أكبر فى العالم، أى ان هذه المؤسسات تدعم العولمة والانفتاح والسوق التجارية المفتوحة، وتعتبر أن الوجود العسكرى الأمريكى فى مناطق العالم المختلفة يصب فى المصلحة الأمريكية بمفهومها الواسع، السياسى والاقتصادى والثقافي. وبالتالى شهدنا خلال العامين الماضيين صراعا ما بين القومية التى يمثلها ترامب وما بين العولمة التى تمثلها المؤسسات التقليدية ودخل الطرفان فى صراع ترويض كل منهما للآخر. فى بعض الملفات الخارجية نجح ترامب فى ترويض تلك المؤسسات وتحقيق رؤيته للسياسة الخارجية عبر الانسحابات الدولية، كما أجاد استخدام استراتيجية العصا والجزرة فى التعامل مع الكثير من ملفات السياسة الخارجية، خاصة مع كوريا الشمالية، حيث صعد من العقوبات الاقتصادية على نظام كيم جونج أون مما دفعه إلى الحوار وعقد القمة التاريخية فى يونيو 2018 فى سنغافورة، ورغم أنه لم يحدث تقدم جوهرى على صعيد الملف النووى لكوريا الشمالية لتعقيدات كثيرة، لكن على الأقل توقفت بيونج يانج عن إجراء التجارب النووية والصاروخية، التى كانت تقوم بها فى السنوات الماضية. كذلك مع إيران حيث تبنى ترامب إستراتيجية احتواء الخطر الإيرانى سواء النووى أو الباليستى أو دعم الإرهاب ودعم طهران لأذرعها الإرهابية فى المنطقة مثل ميليشيا الحوثى الانقلابية فى اليمن وحزب الله فى لبنان والميليشيات الحليفة فى سوريا والعراق، وذلك عبر ممارسة أقصى الضغوط عبر سياسة العصا، حيث انسحبت من الاتفاق النووى وفرضت موجات عديدة من العقوبات الاقتصادية كان آخرها فى نوفمبر الماضى والتى شملت قطاعات النفط والبنوك، ورغم ان تلك الإستراتيجية لم تؤد إلى وقف المخاطر والتهديدات الإيرانية بشكل كامل، إلا أنها على الأقل أسهمت فى تراجع الدور الإقليمى لإيران وتحجيم تمدد أذرعها العسكرية وزيادة الضغوط الداخلية على النظام. كما نجحت سياسة العصا والجزرة من جانب ترامب فى ترويض الحليف التركى عبر فرض العقوبات ثم التقارب وتعايش المصالح بما يحقق تحجيم للدور التركى فى تفاعلات المنطقة خاصة الأزمة السورية. لكن فى المقابل نجحت المؤسسات الأمريكية فى ترويض ترامب وتحجيم اندفاعه نحو التقارب مع روسيا والرئيس بوتين، حيث استخدمت تلك المؤسسات قضية التدخل الروسى فى الانتخابات كسيف مسلط على رقبة ترامب، كما فرض الكونجرس الأمريكى عقوبات على روسيا وفقا لقانون مكافحة خصوم أمريكا فى الخارج واشترط الرجوع إليه قبل رفع تلك العقوبات، ولذلك رغم القمة التى عقدت بين ترامب وبوتين فى هلسنكى فأن التوتر هو الحاكم للعلاقات بين البلدين. وبشكل عام ستظل ملامح السياسة الخارجية لإدارة ترامب خلال ما تبقى من ولايته نتاج التفاعل بين الاعتبارات الانتخابية ومساعيه لتنفيذ وعوده استعدادا للانتخابات الرئاسية المقبلة، وما بين رؤية المؤسسات التقليدية، لكن يظل ترامب بإنجازاته الاقتصادية فى الداخل واستهدافه للناخب الأمريكى بالأساس، قادرا على صياغة السياسة الخارجية الأمريكية وفقا لرؤيته القائمة على عقيدة الصفقة وإستراتيجية العصا والجزرة. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد سيد أحمد