فى الوقت الذى أعلن فيه الرئيس ترامب رغبته بالحوار مع القادة الإيرانيين, دخلت الحزمة الأولى من العقوبات الأمريكية على إيران أمس حيز التنفيذ, وتشمل حظر شراء إيران للدولار الأمريكى، وفرض قيود على قطاع السيارات، وتجارة الذهب والمعادن النفيسة وصادرات السجاد وغيرها إضافة إلى منع طهران من الحصول على الحديد والألومنيوم لصناعاتها، وسحب تراخيص صفقات شركات الطيران المدنية الأمريكية والفرنسية, وتعد تلك العقوبات جزءا من سياسة العصا وممارسة أقصى الضغوط فى إطار الإستراتيجية الأمريكية الشاملة لاحتواء إيران بعد الانسحاب من الاتفاق النووى فى مايو الماضى, وتستهدف وقف أنشطتها النووية، ووضع قيود على برنامجها الباليستى، وتحجيم دورها المزعزع للأمن والاستقرار فى المنطقة. ترتكز السياسة الأمريكية تجاه إيران, والتى تعكس فلسفة وعقيدة إدارة ترامب, على المزج بين سياسة العصا والجزرة، أى ممارسة أقصى الضغوط عبر العقوبات الاقتصادية الموجعة ثم فتح الباب للحوار والتفاوض وفقا للشروط والمطالب الأمريكية, وهى نفس الإستراتيجية التى طبقتها مع كوريا الشمالية ودفعت نظام كيم جون أون إلى القبول بالحوار, حيث تعتبر الإدارة الأمريكية أن سياسة العصا تعطيها قوة وميزة فى التفاوض, وفى الحالة الإيرانية أخذت تلك الإستراتيجية تؤتى ثمارها, فرغم رفض القادة الإيرانيين دعوة ترامب للحوار انطلاقا من أن قبولها فى هذا التوقيت وفى ظل العقوبات المشددة سوف يمثل إذعانا للشروط الأمريكية, إلا أنه على أرض الواقع شكلت تلك العقوبات ضغطا ملحوظا على الاقتصاد الإيرانى الذى يعانى من تدهور كبير تمثل فى فقد العملة الإيرانية الريال لأكثر من نصف قيمتها منذ الانسحاب الأمريكى من الاتفاق, إضافة إلى خروج جماعى للشركات الأوروبية من السوق الأمريكية خوفا من العقوبات مثل شركة توتال الفرنسية وبتريش بتروليم البريطانية وبوينج وإيرباص وبيجو وغيرها, وفى ذات الوقت تزايدت حدة الاحتقان الداخلى مع اندلاع المظاهرات والاحتجاجات فى مختلف المدن الإيرانية اعتراضا على تردى الأوضاع الاقتصادية، وأخذت أبعادا سياسية فى رفض النظام ورموزه وممارساتها الداخلية والخارجية, وبات النظام الإيرانى فى مأزق كبير حيث أضحى يرزح بين سندان الضغوط الداخلية ومطرقة العقوبات الأمريكية, وأصبحت خياراته محدودة مع فشل أطراف الاتفاق النووى الأخرى, خاصة الأوروبية, فى تعويض إعادة فرض العقوبات الأمريكية, كما أن وطأة العقوبات ستزداد بشكل كبير مع فرض الحزمة الأمريكية الثانية وهى الأشد والأقوى حيث تستهدف عصب الاقتصاد الإيرانى فى قطاعى الطاقة من النفط والغاز والقطاع المصرفى والبنك المركزى, وهو ما يعنى أن عقوبات ما بعد الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى تختلف عن العقوبات التى سبقت الاتفاق قبل عام 2015 حيث إنها أكثر ضراوة وتتزامن مع حالة الغليان الداخلى. كما أن توسع الدور الإيرانى الإقليمى بعد ثورات الربيع العربى خاصة فى سوريا والعراق واليمن ولبنان قد كلف النظام كثيرا, حيث أنفق عشرات المليارات من الدولار التى تدفقت عقب رفع العقوبات, ليس على التنمية فى الداخل وتحسين معيشة الشعب الإيرانى, وإنما فى دعم أذرعه العسكرية مثل حزب الله اللبنانى وميليشيا الحوثى الانقلابية فى اليمن وعشرات الميليشيات فى سوريا والعراق والتى يشرف عليها فيلق القدس, الذراع العسكرية الخارجية للحرس الثورى, إضافة إلى تطوير برنامجه الصاروخى الباليستى وتزويد الحوثيين بتلك الصواريخ وتهديد أمن السعودية. كما أن خيار التصعيد من جانب النظام الإيرانى برفض الحوار مع الولاياتالمتحدة والتهديد بإغلاق مضيق هرمز أمام الملاحة الدولية، وتهديد الملاحة فى باب المندب عبر قيام ميليشيا الحوثى التابعة له باستهداف ناقلة نفط سعودية, جاء بنتائج عكسية لأن تهديد الممرات الملاحية الدولية ليس فقط خرقا للقانون الدولى وقانون البحار، وإنما أيضا يعد خطا أحمر بالنسبة للمجتمع الدولى والقوى الغربية, وقد يشعل فتيل حرب فى المنطقة لن تكون فى صالح إيران حيث تميل موازين القوى العسكرية للولايات المتحدة, كما أنه سيدفع الدول الغربية, القائم اقتصادها على النفط, إلى التحالف مع الولاياتالمتحدة فى مواجهة التهديدات الإيرانية، وعلى رأسها الصين التى تمر معظم وارداتها من النفط من مضيق هرمز, ولذا فإن التصعيد يمثل خيار الانتحار بالنسبة للنظام الإيرانى. ورغم أن إستراتيجية الاحتواء الأمريكى لإيران لا تستهدف بشكل مباشر إسقاط أو تغيير النظام, وإنما الضغط عليه لتعديل سلوكه وسياساته الخبيثة فى المنطقة, فإن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التى يعيشها النظام مع اشتداد وطأة العقوبات قد تدفعه فى نهاية المطاف إلى الحوار مع أمريكا إذا شعر أن وجوده بات مهددا بالسقوط, والقبول بالشروط الأمريكية، وعلى رأسها إبرام اتفاق نووى جديد وشامل يمنع إيران من امتلاك السلاح النووى ويقلص من وجودها ودورها السلبى فى المنطقة, لكن خيار الحوار سيظل مرتهنا بمدى تأثير العقوبات الأمريكية ومدى قدرة النظام الإيرانى على تحملها, ومع استبعاد خيار الحرب والمواجهة العسكرية، وخيار الحوار المباشر على الأقل فى المدى القصير ستظل حالة الشد والجذب هى السائدة بين الجانبين, وفى كل الأحوال فإن الاستراتيجية الأمريكية سوف تسهم فى تغيير سياسة النظام الإيرانى, الذى يتسم بالبراجماتية, ويحرص على ضمان استمراره وبقائه. لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد سيد أحمد