قبل ثمانى سنوات عاش المصريون واحدة من أكثر اللحظات أملا فى تاريخهم، عندما تمكنوا من إسقاط رئيس استبد بحكمهم ثلاثين عاما، فبدا لهم أنهم استعادوا السيطرة على مصيرهم، وباتوا قادرين على صنع مستقبلهم. غير أن الأيام توالت، شهورا وأعواما، داروا خلالها فى فلك حكومات انتقالية، وصوتوا فى استفتاءات دستورية وانتخابات برلمانية ثم رئاسية، من دون أن يلامسوا أيا من أحلامهم، بل إن كثيرين منهم صاروا يحنون إلى ما قبل 25 يناير. أفضى غياب نخب مدنية مستقلة قادرة على الحوار والتفاوض السياسي فى تلك اللحظة إلى اقتصار صراع السلطة على ثنائية الإخوان كجماعة دينية، تمتد جذورها فى الربع الثانى للقرن العشرين، والجيش كمؤسسة وطنية برز دورها السياسي فى النصف الثانى من القرن نفسه. صاغت الجماعة لنفسها كهفا فى الداخل تتحوصل داخله، وامتدادا فى الخارج تنتشر من خلاله، عبر مشروع أممي. أما الجيش فحافظ على وطنيته بجكم تكوينه كقلب للدولة الحديثة، وتمدده فى شرايين كل بيت مصرى. ظل مشروع الجماعة مجمدا فى ثلاجة الزمن، حبيسا لوعى مغلق ومأزوم، فى انتظار لحظة التمكين، فيما مورس مشروع الجيش عمليا لستة عقود توزعت على ثلاثة عصور. فمن عبد الناصر إلى السادات إلى مبارك شهدت مصر اتساعا تدريجيا فى هامش التحرر الإعلامى بحكم طبيعة الزمن وضروراته المستجدة، لكن مع تراجع واضح على صعيد العدالة الاجتماعية أدى إلى تفكيك وحصار الطبقة الوسطى التقليدية. فإذا ما أضفنا إلى ذلك حالة الرخاوة التى اتسم بها التعاطى مع العالم الخارجى، والتى أفقدت مصر دورها الإقليمى فى سنوات الألفية الجديدة أدركنا لماذا كانت عاصفة يناير. سارت 25 يناير، بأحلامها الكبرى، إلى طريق الإخوان أحادى الاتجاه فى لحظة عماء تاريخى، ليجد المصريون أنفسهم فى مواجهة حكم دينى رجعى يحاصر مؤسسات الدولة الوطنية ويحاكم ضمائرهم، ويصور مشكلات مصر كأزمة هوية لا يحلها سوى ذلك المشروع الدينى الأممى، المستحيل بالمعايير التاريخية والحضارية، ومن ثم كانت الموجة الثورية الثانية فى 30 يونيو فى لحظة بدت فيها مؤسسات الدولة أقرب إلى تروس آلة يتحرك بعضها ضد بعض، يطحن كل منها الآخر، حتى بدت على وشك الانهيار، وهنا تقدم الجيش باسم الجماهير لاستلام السلطة. وإزاء استمرار القصور الهيكلى فى بنية القوى المدنية، استعادت نخب الحكم الدولتية والأمنية القديمة وهجها وموقعها فى الصدارة باعتبارها البديل الآمن للبراكين المتفجرة، وعلامة على طريق يمكن التوجه صوبه. ورغم أن تلك النخب لم تفصح عن قراءاتها للواقع وتصوراتها للمستقبل، فثمة فهم مضمر يمكن استشفافه من مجمل الخطابات التى تصدر عنها. جوهر ذلك الفهم أن ما بدا لنا كموجة ثورية تجابه الاستبداد، وتنشد الحرية، لا يعدو أن يكون مؤامرة انطلقت من هامش الحرية الذى منحه نظام الحكم السابق للناس، والذى أسىء استخدامه من قبل طرفين: أولهما هم الناس أنفسهم، كونهم غير قادرين على تحمل أعباء حريتهم ولا جاهزين لها، ومن ثم لا يمكن حكمهم إلا بقبضة حديدية، وعندما ارتخت تلك القبضة وقعت الفوضى. وثانيهما القوى العالمية المعادية، التى تآمرت علينا إما لكى تفجر هذه الفوضى من الأصل، وإما لاستغلالها فى تفكيك دولنا. وعلى أساس تلك القراءة الباطنة تم ترتيب الأوضاع الجديدة، على قواعد ليست جديدة بالمرة، بل قديمة جدا، سواء على مستوى القاموس السياسي أو الممارسة الإعلامية وذلك من قبيل الواحدية والإقصائية والاصطفاف مع رفض التنوع والتعدد والاختلاف. هنا يستعاد بعض الإرث الناصرى الذى قيل فى سياقه لا صوت يعلو على صوت المعركة، ولكن فى ثوب جديد هو لا صوت يعلو على صوت المؤامرة التى لا تزال تحاك ضدنا، فى انتظار لحظة الانقضاض علينا من جديد بمجرد تخلينا عن حال الاصطفاف التى نعيشها الآن، والتى يؤدى فقدانها إلى ضياع الوطن، رغم أن أحدا لم يفصح عن مسمى العدو هذه المرة، وهل لا يزال هو إسرائيل، وإذا كان ذلك فما مغزى كل ما يقال عن تعاون معها وأحاديث صفقة القرن التى تخرج منها؟. أو أمريكا، التى تمنحنا عونا عسكريا، ولا يتردد حاكمها فى إبداء إعجابه بنظامنا السياسى وحربه على الإرهاب؟. أو الهيئات الدولية التى تقرضنا المال وتشرف على خطط إصلاحنا الاقتصادي؟. المؤكد لدينا أن الجماهير التى خرجت فى 25 يناير ضد مبارك، وضمنها عموم التيار المدنى الذى خرج فى 30 يونيو ضد مرسى لم ترغب فى صوغ صفقة سياسية على الطريقة الناصرية، لأن العدالة الجذرية التى طبقها عبد الناصر لم تعد ممكنة بحال فى عالم اليوم. نعم رفضت الأغلبية الساحقة من المصريين -ولا تزال - حكم الجماعة رفضا مطلقا، ولكن ذلك لا يعنى تخليهم عن أشواق التغيير التى لم يتم إشباعها، والتى بذلوا لأجلها الدم الغالى والتضحيات الكبرى التى أنتجت لحظة 11 فبراير. ومن ثم تنبع وتتعمق مظاهر الإحباط والاغتراب لدى أطياف النخبة المدنية على نحو لا يمكن الخلاص منه إلا بفتح المجال العام على طريق استعادة السياسة أولا، تكريسا لمفهوم الدولة المدنية بالمعنى الجوهرى الذى يتجاوز المشروعيتين الدينية والعسكرية اللتين تصارعتا طويلا على المصير المصرى، وتأسيسا لمشروعية جديدة كليا، تتجذر فى تراث الحركة الوطنية المصرية خصوصا التراث الليبرالى لثورة 1919، وتراث العدالة الاجتماعية لثورة يوليو، فهذا التأسيس وحده قادر على أن يخرج المجتمع من حضانته ويطلق طاقاته مثلما ينطلق القطار على قضبانه الحديدية واثقا من بلوغ غايته النهائية!.. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم