تعجُّ الساحات العربية اليوم بمواقف معادية للقومية العربية، تحولت بعد أن زلزلت دول عربية بعينها كانت المنبع والمصب للعروبة زلزالا شديدا إلى هجمات متواصلة وغير مسبوقة تنظيرا وممارسة، ضمن نشاط وفاعلية تيارات فكرية وأحزاب وأنظمة، اعتقدت أنها ستكون بديلا مقبولا من الخارج أولا، ومن الداخل ثانيا، وقد برزت فى تيارين مختلفين من ناحية الرؤية، لكنهما يحققان الهدف نفسه، وهو القضاء على المشروع القومى العربى فى كل دولة، أحدهما دينى، أراد هدم البناء الكلى للمجتمع من خلال التشكيك فى كل ما تحقق، ضمن تصور لهذا التيار قائم على فكرة أنه الأهدى والأصوب ما دام ينهى مهام أصحاب التوجهات القومية، ويحل بديلا من خلال دغدغة المشاعر، بعودة للأمة المناقضة للقوم. والتيار الثاني: يمثل أقليات كانت إلى وقت قريب محمية وجودياًّ من الحُكام القوميين، الذين وَسَّعُوا من مساحة التعايش والقبول والاعتراف، طوعا أو كرها، بين القوميات الأخرى، والمذاهب الدينية المختلفة، والطوائف المتقاتلة، والأيديولوجيات المتصارعة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وللإنصاف هناك من اختار هذا الطريق، وهناك من أجبر عنه كرها، وعلينا التمييز بين الاثنين، مثلما علينا دعم عناصر متفرقة هنا وهناك داخل كل دولة عربية اختارت أن تكون فى صف الدولة الوطنية، ومدافعة عن ميراثها القومى على ما فيه من نقائص وثغرات، وما نتج عنه أحيانا من هزائم وانتكاسات، وصراعات بين القوميين العرب أنفسهم، بل إنها تقف فى خط الدفاع الأول برفضها تشويه مرحلة الاستقلال الوطنى، التى حاول فيها المنظرون القوميون أن يقدموا برامج تجعل من العرب أمة صانعة للتاريخ ومشاركة فيه، ولها إسهامها الحضارى، فى كنف مشاريع الدولة الوطنية ذات التوجه القومى. أولئك، ومعهم عرَب، هم فى دفاعهم عن عروبتهم مثل القابض على الجمر، يواجهون بحزم ما يَبُثُّه كثير من المثبطين للعزائم والمُحْبَطِين من هول ما تعيشه الأمة العربية فى العقدين الأولين من عمر القرن الحادى والعشرين، لاشك أن المعركة الراهنة قد لا تكون لصالحهم، خاصة بعد أن تعاظم العداء من جيران، مكَّنهم العرب يوما من ان يكونوا قادة العالم، بل قبلوا بالتسليم لهم حين دخلوا فى الإسلام، ثم اتَّخذوه مطيَّةً لحكم الشعوب والأمم، لكن بالتأكيد سينتصرون على مستوى الجبهة الثقافية، لأنها تميزت بالتجدد والبقاء فى كل مراحل تاريخنا، والدليل هنا، أن الحالة العربية الراهنة، على ما فيها من سوء، لم تحل دون وجود وعى فردى وجماعى بكل القضايا القومية بدءاً من تحرير فلسطين، وانتهاء بدعم احتراف شباب عرب فى أندية رياضية أوروبية. من ناحية أخرى، يمكن القبول بالوصف الحالى للقومية العربية إذا نظرنا إليها من زاوية التنظير، بحيث يصعب تحقيق ما كان يأمل فيه المفكرون القوميون، أمثال: ميشال عفلق ونديم البيطار وساطع الحصرى، وعبد الرحمن الكواكبى وغيرهم، أو كبار القادة أمثال: جمال عبد الناصر، وهوارى بومدين، وحافظ الأسد، وصدام حسين.. إلخ، لكن الأمر مختلف حين يتعلق بالمصير الثقافى للقومية العربية، فهى تملك مقومات البقاء، بل قادرة على استرجاع الدين من مختطفيه أولا، ودفع الدول العربية إلى التقارب شاءت أم أبت لأجل الحفاظ على الوجود العربى ثانياً، وهذا لن يتم إلا بتطوير الوعى من خلال الوعاء الثقافى. الفكر القومى العربى سيظل يمثل مرجعية، حتى لو تخلى عنه السياسيون، واختاروا طريقا آخر، مثل ذلك الذى نراه فى تضخيم غير مقصود للمشاريع الوطنية على حساب المشاريع القومية، مع أنها فى حقيقة الأمر ليست متناقضة، بل إنها مكملة، ولن يثنيه عن الاستمرارية الذين يحملون اليوم فكرا معاديا تجاه القومية العربية. إذا تأملنا خريطة الكتابات العربية فكرا وصحافة وإبداعا سنجدها حاملة لتوقعات بالتغيير أصبحت وشيكة الحدوث، معظمها غارق فى المآسى، ويعمل على تراكم المخاوف، ويُوسِّع من مساحة التشاؤم، وهذا يعنى أن اهتمامنا بمصيرنا القومى يشكل هاجسا لدينا، وتلك ظاهرة صحية، وبداية، العافية، ذلك لأن البوح بالشكوى يعبّر عن وجود الألم، وهذا الأخير نتيجة المرض، والعلاج يتم من خلال حماية الثقافة، لأنها المصير، لهذا نُعوِّل على قراءات نقدية منصفة وواعية تخرج من صيغ المدح، إلى تشخيص حالتنا المرضية من جهة، ولتحلق بنا فى فضاءات النقد البناء من جهة أخرى، وهذا ما نأمله حتى لو انتظرنا طويلا، ومهما يكن طول الانتظار فإنه سيبقى أقل مدة مقارنة مع ماضى العرب،ومهما تكن مصادر النيران الموجهة ضد القومية العربية، وسواء أكانت عدوة أم صديقة، فإنها تجد من يطفئها، فالبيت العربى تشتعل فيه النار لكنها لا تحرقه كله، لأن عوامل البقاء فيه أكبر وأقوى من أسباب الفناء. لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه