الرئيس السيسي يجتمع برئيس مجلس الوزراء ووزير الأوقاف    سعر الجنيه الإسترلينى يختتم تعاملات اليوم الاثنين 28-7-2025 على تراجع    ضعف المياه بشرق وغرب بسوهاج غدا لأعمال الاحلال والتجديد بالمحطة السطحية    رئيس الوزراء يلتقى رئيس شركة "شل العالمية لأنشطة الغاز المتكاملة"    برلمانى: كلمة الرئيس السيسى تؤكد ريادة مصر الأخلاقية والإنسانية فى دعم فلسطين    بدء تنفيذ عمليات إسقاط جوي للمساعدات على مناطق في جنوب وشمال قطاع غزة    ضغوط على بريطانيا للاعتراف بفلسطين.. صحيفة: سيكون له ثقل خاص بسبب وعد بلفور    4 مباريات دولية لسيدات الطائرة بمعسكر سلوفينيا استعدادًا لبطولة العالم    المصرى يؤدي مراناً صباحياً بمدينة سوسة بعد ودية الترجي.. صور    وادي دجلة يعزز صفوفه بالتعاقد مع الحارس عمرو حسام    ضبط محطة تموين سيارات لتصرفها فى 7976 لتر سولار بالمخالفة فى الإسكندرية    تجديد حبس متهم بقتل سيدة وسرقة 5700 جنيه من منزلها بالشرقية بسبب "المراهنات"    جنازة زياد الرحبانى.. كارمن لبس تنهار فى البكاء وتحتضن نعش الموسيقار الراحل    جمال الكشكى: الرئيس السيسى وجّه رسائل حاسمة للعالم من أجل إنهاء حرب غزة    الصحة العالمية تدعو إلى القضاء على التهاب الكبد للوقاية من سرطان الكبد    فريق جراحة الأورام بالسنبلاوين ينجح فى استئصال كيس ضخم من حوض مريضة    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم فردوس عبد الحميد بدورته ال 41    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة تظلمات مسابقة ألف إمام وخطيب    لمواجهة الكثافة الطلابية.. فصل تعليمي مبتكر لرياض الأطفال بالمنوفية (صور)    نائب رئيس الوزراء : تدريب مجانى لتأهيل سائقى الأتوبيسات والنقل الثقيل وتوفير فرص عمل بالشركات    ديمقراطية العصابة..انتخابات مجلس شيوخ السيسي المقاعد موزعة قبل التصويت وأحزاب المعارضة تشارك فى التمثيلية    عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الاثنين 28-7-2025 بعد آخر انخفاض بالصاغة    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    وزير الأوقاف: وثِّقوا علاقتكم بأهل الصدق فى المعاملة مع الله    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    الفنان محمد رياض يودع السودانيين فى محطة مصر قبل عودتهم للسودان    وزير الصحة: مصر الأولى عالميا في الحصول على التصنيف الذهبي بالقضاء على فيروس سي    المدارس تبدأ تسليم استمارات النجاح وإخطارات الدور الثاني لطلاب الثانوية العامة    مدبولي يستعرض استجابات منظومة الشكاوى الحكومية لعدد من الحالات بقطاعات مختلفة    تنسيق الجامعات 2025.. برنامج الدراسات القانونية باللغة الإنجليزية ب حقوق حلوان    النصر ورونالدو.. بوابة جواو فيليكس نحو كأس العالم    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    فرقة الآلات الشعبية وكورال السويس يتألقان في رابع أيام "صيف السويس"    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    المجلس التنفيذي لمحافظة مطروح يعقد اجتماعه الرابع للعام 2025 برئاسة اللواء خالد شعيب    السّم في العسل.. أمين الفتوى يحذر من "تطبيقات المواعدة" ولو بهدف الحصول على زواج    حكم استمرار الورثة في دفع ثمن شقة بالتقسيط بعد وفاة صاحبها.. المفتي يوضح    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    إسرائيل تقرر تجميد خطة "المدينة الإنسانية" في رفح    محافظ المنيا: إزالة 744 حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة    «الصحة» تحذر من الإجهاد الحراري وضربات الشمس وتوجه نصائح وقائية    إطلاق حملة لتعقيم وتطعيم الكلاب الضالة بمدينة العاشر من رمضان (صور)    وكيل الأمم المتحدة: الأزمة الإنسانية في غزة مدمرة    جيروزاليم بوست: العديد من أعضاء إدارة ترامب يعتقدون أن الوقت مناسب لاقتراح صفقة شاملة لإنهاء الحرب في غزة    شوبير يدافع عن طلب بيراميدز بتعديل موعد مباراته أمام وادي دجلة في الدوري    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    أمين الفتوى: الصلاة بالبنطلون أو "الفانلة الداخلية" صحيحة بشرط ستر العورة    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي لأكثر من مليون فرد منذ بداية الحرب    توفير السيولة وخلق كوادر شابة مفتاح نهوض شركات المقاولات التابعة للقابضة للتشييد    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    في مستهل زيارته لنيويورك.. وزير الخارجية يلتقي بالجالية المصرية    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    هدى المفتي تحسم الجدل وترد على أنباء ارتباطها ب أحمد مالك    الكرتي يترك معسكر بيراميدز ويعود للمغرب    السيطرة على حريق بشقة سكنية في البلينا وإصابة 3 بحالات اختناق    إدريس يشيد بالبداية المبهرة.. ثلاث ميداليات للبعثة المصرية فى أول أيام دورة الألعاب الإفريقية للمدارس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مثقفون عرب يُفككون حالَ الواقع الراهن: كلنا في الهم شرق
نشر في صوت البلد يوم 01 - 12 - 2017

يمور الواقع العربي الراهن بمشاكل سياسية واجتماعية وتربوية وثقافية واقتصادية متنوعة، تُنبئ جميعها بكوننا نعيش انعطافة تاريخية كبرى نعلم إيلامَها ولا نعلم مآلَها. وهي انعطافةٌ صورتُها تشتتُ الموقف العربي حيال القضايا الكبرى، وارتهانُه لقوى خارجية في تدبير الشؤون الوطنية، وضعفُ القدرة على ضمان أمن الناس، فضلا عن تردي الوعي بقيم التسامح والعدل والاحترام وتغول الفردانية والرغبة في السيطرة على الآخر. وقد سعت «القدس العربي» إلى أن تنظر في تمثلات المثقفين العرب لهذه الانعطافة الخطيرة ومواقفهم منها.
ثقافة التخريب
يقول الروائي الأردني «قاسم توفيق» : إن ما يميز الواقع العربي هو كونه ثابتًا وغير متحول، ويتشكل ثباته من مكوناتِه وخصائصِه غير المتجددة، التي يقف بينها وبين التطور حاجزٌ صلبٌ ليس من السهل عبوره أو تحطيمه. إن الراهن العربي ليس مستحدثًا، فهو في صيرورة ثابثة منذ عقود، ما يتخيله المُراقب للحياة العربية في السنوات الأخيرة، وما يدور بها مِن هزات وكوارث ليس على مستوى الحروب البشعة التي تدور رحاها وتقضي على مئات الألوف من الأبرياء، بل على صعيد الانغلاق الفكري، واستلاب المكون الثقافي العربي من موروثه الجاهلي، يَعرف بأن هذه الحياة قد وَقَفَت في نقطة لا يمكن التزحزح عنها. إن التأثيرات الدرامية التي يشهدها الواقع العربي هي شكلٌ من أشكال تكريس ثباته.
ومَن يحسب بأن تغير الأساليب في إبراز الجهل والتعصب بأنه اختلافٌ أو تغيرٌ، فإنه يجانب الصواب، نحن نعيش في الحالة ذاتها من الوعي، وما تبدل سوى أدواتنا وطرُقنا. ولذلك، فإن ما يشغلني بالواقع الراهن هو ذاته الذي كان يشغلني منذ ميلاد وعيي، أزمة العقل العربي، ومحاولاته الهزيلة في حل إشكالية ثباته وعدم تطوره، بالمزيد مِن الثبات والجمود.
إن ما وقع من أحداث في السنوات القليلة الماضية في العالم العربي، ليس إلا تكريسًا لحالة الجمود الفكري، الذي يعاني منه العقل العربي، فما سمي «الثورات» أو «الربيع العربي»، التي كانت في ظاهرها كذلك، ثورة وربيعا عربيا، استطاعت بعض الأنظمة العربية برعاية صهيونية أمريكية أن تحولها إلى نقيضها، وإلى أدوات تزيد من استحكام طوق التخلف، وعادت بمجتمعاتنا إلى الوراء، وقدمَت لنا أنموذجًا وحشيا متخلفًا.
إن ما يجب أن نفكر في البحث عن إجابة عنه، ليس المأزق المجتمعي العربي الحالي، لكن السؤال المأزق هو .. ما الذي جعل الكثير من المفكرين والمنظرين، والمثقفين والأدباء والفنانين العرب ينحون للاتجاه التخريبي نفسه الذي تمارسه الحكومات، لإبقاء العقل العربي في حالة تخلف ورجعية. هذا ما يشغلني في الواقع العربي، منذ عشرات السنين.
إنحطاط العقل العربي
من ناحيته يرى الشاعر المغربي «عبد اللطيف الوراري» مأساة ما نعيشه اليوم، فيقول .. بوصفنا مشتغلين بالفكر والأدب، يظل هاجسنا هو المسألة الثقافية بمعناها العميق، من شروط الكتابة إلى آلية توزيع المقروء وتسويقه، مرورًا بإمكانات حفز القراءة ودعم مؤسسات التربية والعمل الجماعي والشبابي. وهو هاجس ضاغط يلح علينا باستمرار، بالنظر إلى الوقائع المستجدة التي نعاينها في واقع الحال، غير أننا لا نفصل هذه المسألة الحيوية عن بقية المسائل الأخرى الأكثر تعقيدًا واستفحالًا، وفي مقدمتها ما هو سياسي. واسمح لي هنا بأن أعبر عن عدم رضاي مما يحدث في واقعنا العربي، بل عن غيظي الشديد منه: عنف، جرائم، قنابل وسيارات مفخخة تودي بأرواح الأبرياء، صراعات وانقسامات سياسية، أطماع توسعية، ثم
وهنا المفارقة المضحكة المبكية لا أحد يتحدث عن قضية فلسطين بعد اتساع الخرق على الراقع. أنا لا أستثني أحدًا؛ كل بلد لا استراتيجية له في مواجهة ما يتهدده. من الماء إلى الماء، سوى الصحراء فاغرةً فاها، والأنقاض هي الأنقاض. إننا إذ نلقي نظرةً على خريطة العالم العربي الممزق والمهان، نشعر كأننا نسقط في هوة يأسٍ ما لها قرار.
هل انحط العقل السياسي العربي إلى هذا الحد؟ أين غاب المثقفون بعدما كانت تحليلاتهم تغص بها الصحف والمجلات، ولاسيما بعد أحداث (الربيع العربي)؟ ما دور مؤسسات الجامعة العربية التي أبانت قممها عن فشل ذريع في تدبير مآزق هذه المرحلة التي ستجرف الجميع حكامًا ومحكومين؟ لكن مع السواد القاتم الذي تبعث عليه هذه الوقائع في راهننا العربي البائس، فإننا مع ذلك نظل «محكومين بالأمل» على حد تعبير سعد الله ونوس.
الضياع العربي والاستقرار الإسرائيلي
ولا تُخفي الشاعرة التونسية «زهور العربي» شكوكها في طُهرية الثورات العربية، فتقول .. إن ما نعيشه خطب عظيم، وكلنا نلاحظ مدى استقرار إسرائيل وانشغالها بمصالحها في هدوء غير معهود وهي تسعى لإعادة تقسيم المنطقة (سايكس بيكو جديد) لكنها أكثر حنكة، ركزت فيه على ضرب العرب بالعرب، ضرب الأخ بأخيه ثقافيا وعقائديا وصنعت ظاهرة الدواعش، التي أعادتنا إلى الوراء. إسرائيل تتسلى بنا فتشعل الفتنة بين الأكراد والعرب في العراق وإيران وبين السعودية وإيران وحزب الله وبين سوريا وتركيا وبين اليمن والسعودية، ولا يمكن أن نفصل، فالمحلي يتنافذ على القومي والإقليمي فكما يقال «كلنا في الهم شرق».
أين نحن من العالم ونحن منشغلون بلقمة العيش التي باتت عصية، في ظل تفاقم الفقر وتراجعنا الاقتصادي والاجتماعي، إلى متى سنكون مجرد أعواد ثقاب بيد هواة الألعاب النارية، إلى متى سنظل مجرد أجندات ملغومة بيد العالم المتقدم؟ وهل ما زلنا «بلدان العالم الثالث» أم تدحرجنا درجات بعدما ضاع العراق وسوريا واليمن؟ كلها أسئلة تتعب جمجمتي ولا جواب يشفي غليلي، ومع ذلك تظل جذوة الأمل تتقد لتحقيق غد أكرم لأمتنا.
عروبة هذا الزمان
أما الروائي اللبناني «محمد حجيري» فقد انصب موقفه مفهوم (العروبة) حسب وعي المفكرين والساسة العرب له، فيقول .. حين نسمع رئيس النظام السوري بشار الأسد، يقول إن العروبة لم يبنها العرب، خاصة في سوريا وبلاد الشام»، بل أضاف إليها «معظم الدول العربية»، نشعر بالدرك الذي وصلنا إليه، ونعايشه كل يوم في السنوات الأخيرة. فالنظام البعثي الأسدي، حليف النظام الإيراني الخميني منذ بداية الثمانينيات، الذي دأب على رفع شعار «أمة عربية واحدة» و»دمشق قلب العروبة النابض»، كان يمنع الأكراد من ممارسة أدنى حقوقهم، يفرض عليهم كل وسائل التعريب البعثي، ها هو ينسب اليوم العروبة إلى غير العرب، ولا نعرف من يقصده ببناة العروبة؟ هل هم الأكراد أم الأرمن أم السريان أم الشركس أم الأمازيغ أم الطوارق أم الآشوريون؟ ولا ندري عن أي عرب يتحدث؟ هل يقصد العرب الرحل؟ أو عرب الجزيرة العربية؟ هل يقصد المسلمين السنة ويكابر في ذكر ذلك لأنه يدعي أنه علماني؟ وهل المسيحيون الروم أو الغساسنة ليسوا عربا (وهم أبرز من أسس في العروبة، من البعثي ميشال عفلق إلى اليساري جورج حبش)؟ هل يريد القول إن العروبة هي للأقليات؟ ليس القصد هنا الدفاع عن العروبة أو التنظير لها أو شرحها، بل التلميح إلى نموذج من النماذج التي تشغلني في العالم العربي، وهو خطاب الهذر في زمن الفراغ الرهيب. فبشار الأسد، الذي يحب «التفلسف» والسرد، والعروبة بالنسبة إليه هي تأبيد الجلوس على الكرسي، ربما لا يدري معنى ما يقوله، ربما يريد استقطاب بعض الحلفاء من الأقليات بعدما شرد الأكثرية…
واللافت أن أول العروبة القومية أسسه بعض المسيحيين اللبنانيين في إطار مناهضة الوجود العثماني، سرعان ما ترسخت شعبوياً في زمن ثورة جمال عبد الناصر، وبغض النظر عن ثقافة ساطع الحصري وميشال عفلق وصلاح بيطار وزكي الأرسوزي.
وإذا كان «أول العروبة» شاهداً على تخلي الأكثرية وتولي الأقلية، وأنه ظل معمداً ب»النار والثأر والدم» كما يذهب إلى ذلك حازم صاغية في كتابه الموسوم بهذا الاسم، فان «آخر العروبة» نراه في زمن يتنامى فيه التمدد الإيراني في العراق وسوريا ومناطق أخرى، وحليفه بشار الأسد الذي يمجد تهجير شعبة ضمن منطق «المجتمع المتجانس»، وهي نزعة فاشية اجتثاثية. وبالمختصر تبدو عروبة بشار الأسد شبيهة بسوريا الآن، فهي، عدا عن هَذَرِيتها، مزيج من قومية سورية فاشية وعسكرية ومطعمة بغطاء قومي فارسي وقومي روسي و»روحية» مذهبية وطائفية».
يمور الواقع العربي الراهن بمشاكل سياسية واجتماعية وتربوية وثقافية واقتصادية متنوعة، تُنبئ جميعها بكوننا نعيش انعطافة تاريخية كبرى نعلم إيلامَها ولا نعلم مآلَها. وهي انعطافةٌ صورتُها تشتتُ الموقف العربي حيال القضايا الكبرى، وارتهانُه لقوى خارجية في تدبير الشؤون الوطنية، وضعفُ القدرة على ضمان أمن الناس، فضلا عن تردي الوعي بقيم التسامح والعدل والاحترام وتغول الفردانية والرغبة في السيطرة على الآخر. وقد سعت «القدس العربي» إلى أن تنظر في تمثلات المثقفين العرب لهذه الانعطافة الخطيرة ومواقفهم منها.
ثقافة التخريب
يقول الروائي الأردني «قاسم توفيق» : إن ما يميز الواقع العربي هو كونه ثابتًا وغير متحول، ويتشكل ثباته من مكوناتِه وخصائصِه غير المتجددة، التي يقف بينها وبين التطور حاجزٌ صلبٌ ليس من السهل عبوره أو تحطيمه. إن الراهن العربي ليس مستحدثًا، فهو في صيرورة ثابثة منذ عقود، ما يتخيله المُراقب للحياة العربية في السنوات الأخيرة، وما يدور بها مِن هزات وكوارث ليس على مستوى الحروب البشعة التي تدور رحاها وتقضي على مئات الألوف من الأبرياء، بل على صعيد الانغلاق الفكري، واستلاب المكون الثقافي العربي من موروثه الجاهلي، يَعرف بأن هذه الحياة قد وَقَفَت في نقطة لا يمكن التزحزح عنها. إن التأثيرات الدرامية التي يشهدها الواقع العربي هي شكلٌ من أشكال تكريس ثباته.
ومَن يحسب بأن تغير الأساليب في إبراز الجهل والتعصب بأنه اختلافٌ أو تغيرٌ، فإنه يجانب الصواب، نحن نعيش في الحالة ذاتها من الوعي، وما تبدل سوى أدواتنا وطرُقنا. ولذلك، فإن ما يشغلني بالواقع الراهن هو ذاته الذي كان يشغلني منذ ميلاد وعيي، أزمة العقل العربي، ومحاولاته الهزيلة في حل إشكالية ثباته وعدم تطوره، بالمزيد مِن الثبات والجمود.
إن ما وقع من أحداث في السنوات القليلة الماضية في العالم العربي، ليس إلا تكريسًا لحالة الجمود الفكري، الذي يعاني منه العقل العربي، فما سمي «الثورات» أو «الربيع العربي»، التي كانت في ظاهرها كذلك، ثورة وربيعا عربيا، استطاعت بعض الأنظمة العربية برعاية صهيونية أمريكية أن تحولها إلى نقيضها، وإلى أدوات تزيد من استحكام طوق التخلف، وعادت بمجتمعاتنا إلى الوراء، وقدمَت لنا أنموذجًا وحشيا متخلفًا.
إن ما يجب أن نفكر في البحث عن إجابة عنه، ليس المأزق المجتمعي العربي الحالي، لكن السؤال المأزق هو .. ما الذي جعل الكثير من المفكرين والمنظرين، والمثقفين والأدباء والفنانين العرب ينحون للاتجاه التخريبي نفسه الذي تمارسه الحكومات، لإبقاء العقل العربي في حالة تخلف ورجعية. هذا ما يشغلني في الواقع العربي، منذ عشرات السنين.
إنحطاط العقل العربي
من ناحيته يرى الشاعر المغربي «عبد اللطيف الوراري» مأساة ما نعيشه اليوم، فيقول .. بوصفنا مشتغلين بالفكر والأدب، يظل هاجسنا هو المسألة الثقافية بمعناها العميق، من شروط الكتابة إلى آلية توزيع المقروء وتسويقه، مرورًا بإمكانات حفز القراءة ودعم مؤسسات التربية والعمل الجماعي والشبابي. وهو هاجس ضاغط يلح علينا باستمرار، بالنظر إلى الوقائع المستجدة التي نعاينها في واقع الحال، غير أننا لا نفصل هذه المسألة الحيوية عن بقية المسائل الأخرى الأكثر تعقيدًا واستفحالًا، وفي مقدمتها ما هو سياسي. واسمح لي هنا بأن أعبر عن عدم رضاي مما يحدث في واقعنا العربي، بل عن غيظي الشديد منه: عنف، جرائم، قنابل وسيارات مفخخة تودي بأرواح الأبرياء، صراعات وانقسامات سياسية، أطماع توسعية، ثم
وهنا المفارقة المضحكة المبكية لا أحد يتحدث عن قضية فلسطين بعد اتساع الخرق على الراقع. أنا لا أستثني أحدًا؛ كل بلد لا استراتيجية له في مواجهة ما يتهدده. من الماء إلى الماء، سوى الصحراء فاغرةً فاها، والأنقاض هي الأنقاض. إننا إذ نلقي نظرةً على خريطة العالم العربي الممزق والمهان، نشعر كأننا نسقط في هوة يأسٍ ما لها قرار.
هل انحط العقل السياسي العربي إلى هذا الحد؟ أين غاب المثقفون بعدما كانت تحليلاتهم تغص بها الصحف والمجلات، ولاسيما بعد أحداث (الربيع العربي)؟ ما دور مؤسسات الجامعة العربية التي أبانت قممها عن فشل ذريع في تدبير مآزق هذه المرحلة التي ستجرف الجميع حكامًا ومحكومين؟ لكن مع السواد القاتم الذي تبعث عليه هذه الوقائع في راهننا العربي البائس، فإننا مع ذلك نظل «محكومين بالأمل» على حد تعبير سعد الله ونوس.
الضياع العربي والاستقرار الإسرائيلي
ولا تُخفي الشاعرة التونسية «زهور العربي» شكوكها في طُهرية الثورات العربية، فتقول .. إن ما نعيشه خطب عظيم، وكلنا نلاحظ مدى استقرار إسرائيل وانشغالها بمصالحها في هدوء غير معهود وهي تسعى لإعادة تقسيم المنطقة (سايكس بيكو جديد) لكنها أكثر حنكة، ركزت فيه على ضرب العرب بالعرب، ضرب الأخ بأخيه ثقافيا وعقائديا وصنعت ظاهرة الدواعش، التي أعادتنا إلى الوراء. إسرائيل تتسلى بنا فتشعل الفتنة بين الأكراد والعرب في العراق وإيران وبين السعودية وإيران وحزب الله وبين سوريا وتركيا وبين اليمن والسعودية، ولا يمكن أن نفصل، فالمحلي يتنافذ على القومي والإقليمي فكما يقال «كلنا في الهم شرق».
أين نحن من العالم ونحن منشغلون بلقمة العيش التي باتت عصية، في ظل تفاقم الفقر وتراجعنا الاقتصادي والاجتماعي، إلى متى سنكون مجرد أعواد ثقاب بيد هواة الألعاب النارية، إلى متى سنظل مجرد أجندات ملغومة بيد العالم المتقدم؟ وهل ما زلنا «بلدان العالم الثالث» أم تدحرجنا درجات بعدما ضاع العراق وسوريا واليمن؟ كلها أسئلة تتعب جمجمتي ولا جواب يشفي غليلي، ومع ذلك تظل جذوة الأمل تتقد لتحقيق غد أكرم لأمتنا.
عروبة هذا الزمان
أما الروائي اللبناني «محمد حجيري» فقد انصب موقفه مفهوم (العروبة) حسب وعي المفكرين والساسة العرب له، فيقول .. حين نسمع رئيس النظام السوري بشار الأسد، يقول إن العروبة لم يبنها العرب، خاصة في سوريا وبلاد الشام»، بل أضاف إليها «معظم الدول العربية»، نشعر بالدرك الذي وصلنا إليه، ونعايشه كل يوم في السنوات الأخيرة. فالنظام البعثي الأسدي، حليف النظام الإيراني الخميني منذ بداية الثمانينيات، الذي دأب على رفع شعار «أمة عربية واحدة» و»دمشق قلب العروبة النابض»، كان يمنع الأكراد من ممارسة أدنى حقوقهم، يفرض عليهم كل وسائل التعريب البعثي، ها هو ينسب اليوم العروبة إلى غير العرب، ولا نعرف من يقصده ببناة العروبة؟ هل هم الأكراد أم الأرمن أم السريان أم الشركس أم الأمازيغ أم الطوارق أم الآشوريون؟ ولا ندري عن أي عرب يتحدث؟ هل يقصد العرب الرحل؟ أو عرب الجزيرة العربية؟ هل يقصد المسلمين السنة ويكابر في ذكر ذلك لأنه يدعي أنه علماني؟ وهل المسيحيون الروم أو الغساسنة ليسوا عربا (وهم أبرز من أسس في العروبة، من البعثي ميشال عفلق إلى اليساري جورج حبش)؟ هل يريد القول إن العروبة هي للأقليات؟ ليس القصد هنا الدفاع عن العروبة أو التنظير لها أو شرحها، بل التلميح إلى نموذج من النماذج التي تشغلني في العالم العربي، وهو خطاب الهذر في زمن الفراغ الرهيب. فبشار الأسد، الذي يحب «التفلسف» والسرد، والعروبة بالنسبة إليه هي تأبيد الجلوس على الكرسي، ربما لا يدري معنى ما يقوله، ربما يريد استقطاب بعض الحلفاء من الأقليات بعدما شرد الأكثرية…
واللافت أن أول العروبة القومية أسسه بعض المسيحيين اللبنانيين في إطار مناهضة الوجود العثماني، سرعان ما ترسخت شعبوياً في زمن ثورة جمال عبد الناصر، وبغض النظر عن ثقافة ساطع الحصري وميشال عفلق وصلاح بيطار وزكي الأرسوزي.
وإذا كان «أول العروبة» شاهداً على تخلي الأكثرية وتولي الأقلية، وأنه ظل معمداً ب»النار والثأر والدم» كما يذهب إلى ذلك حازم صاغية في كتابه الموسوم بهذا الاسم، فان «آخر العروبة» نراه في زمن يتنامى فيه التمدد الإيراني في العراق وسوريا ومناطق أخرى، وحليفه بشار الأسد الذي يمجد تهجير شعبة ضمن منطق «المجتمع المتجانس»، وهي نزعة فاشية اجتثاثية. وبالمختصر تبدو عروبة بشار الأسد شبيهة بسوريا الآن، فهي، عدا عن هَذَرِيتها، مزيج من قومية سورية فاشية وعسكرية ومطعمة بغطاء قومي فارسي وقومي روسي و»روحية» مذهبية وطائفية».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.