يمور الواقع العربي الراهن بمشاكل سياسية واجتماعية وتربوية وثقافية واقتصادية متنوعة، تُنبئ جميعها بكوننا نعيش انعطافة تاريخية كبرى نعلم إيلامَها ولا نعلم مآلَها. وهي انعطافةٌ صورتُها تشتتُ الموقف العربي حيال القضايا الكبرى، وارتهانُه لقوى خارجية في تدبير الشؤون الوطنية، وضعفُ القدرة على ضمان أمن الناس، فضلا عن تردي الوعي بقيم التسامح والعدل والاحترام وتغول الفردانية والرغبة في السيطرة على الآخر. وقد سعت «القدس العربي» إلى أن تنظر في تمثلات المثقفين العرب لهذه الانعطافة الخطيرة ومواقفهم منها. ثقافة التخريب يقول الروائي الأردني «قاسم توفيق» : إن ما يميز الواقع العربي هو كونه ثابتًا وغير متحول، ويتشكل ثباته من مكوناتِه وخصائصِه غير المتجددة، التي يقف بينها وبين التطور حاجزٌ صلبٌ ليس من السهل عبوره أو تحطيمه. إن الراهن العربي ليس مستحدثًا، فهو في صيرورة ثابثة منذ عقود، ما يتخيله المُراقب للحياة العربية في السنوات الأخيرة، وما يدور بها مِن هزات وكوارث ليس على مستوى الحروب البشعة التي تدور رحاها وتقضي على مئات الألوف من الأبرياء، بل على صعيد الانغلاق الفكري، واستلاب المكون الثقافي العربي من موروثه الجاهلي، يَعرف بأن هذه الحياة قد وَقَفَت في نقطة لا يمكن التزحزح عنها. إن التأثيرات الدرامية التي يشهدها الواقع العربي هي شكلٌ من أشكال تكريس ثباته. ومَن يحسب بأن تغير الأساليب في إبراز الجهل والتعصب بأنه اختلافٌ أو تغيرٌ، فإنه يجانب الصواب، نحن نعيش في الحالة ذاتها من الوعي، وما تبدل سوى أدواتنا وطرُقنا. ولذلك، فإن ما يشغلني بالواقع الراهن هو ذاته الذي كان يشغلني منذ ميلاد وعيي، أزمة العقل العربي، ومحاولاته الهزيلة في حل إشكالية ثباته وعدم تطوره، بالمزيد مِن الثبات والجمود. إن ما وقع من أحداث في السنوات القليلة الماضية في العالم العربي، ليس إلا تكريسًا لحالة الجمود الفكري، الذي يعاني منه العقل العربي، فما سمي «الثورات» أو «الربيع العربي»، التي كانت في ظاهرها كذلك، ثورة وربيعا عربيا، استطاعت بعض الأنظمة العربية برعاية صهيونية أمريكية أن تحولها إلى نقيضها، وإلى أدوات تزيد من استحكام طوق التخلف، وعادت بمجتمعاتنا إلى الوراء، وقدمَت لنا أنموذجًا وحشيا متخلفًا. إن ما يجب أن نفكر في البحث عن إجابة عنه، ليس المأزق المجتمعي العربي الحالي، لكن السؤال المأزق هو .. ما الذي جعل الكثير من المفكرين والمنظرين، والمثقفين والأدباء والفنانين العرب ينحون للاتجاه التخريبي نفسه الذي تمارسه الحكومات، لإبقاء العقل العربي في حالة تخلف ورجعية. هذا ما يشغلني في الواقع العربي، منذ عشرات السنين. إنحطاط العقل العربي من ناحيته يرى الشاعر المغربي «عبد اللطيف الوراري» مأساة ما نعيشه اليوم، فيقول .. بوصفنا مشتغلين بالفكر والأدب، يظل هاجسنا هو المسألة الثقافية بمعناها العميق، من شروط الكتابة إلى آلية توزيع المقروء وتسويقه، مرورًا بإمكانات حفز القراءة ودعم مؤسسات التربية والعمل الجماعي والشبابي. وهو هاجس ضاغط يلح علينا باستمرار، بالنظر إلى الوقائع المستجدة التي نعاينها في واقع الحال، غير أننا لا نفصل هذه المسألة الحيوية عن بقية المسائل الأخرى الأكثر تعقيدًا واستفحالًا، وفي مقدمتها ما هو سياسي. واسمح لي هنا بأن أعبر عن عدم رضاي مما يحدث في واقعنا العربي، بل عن غيظي الشديد منه: عنف، جرائم، قنابل وسيارات مفخخة تودي بأرواح الأبرياء، صراعات وانقسامات سياسية، أطماع توسعية، ثم وهنا المفارقة المضحكة المبكية لا أحد يتحدث عن قضية فلسطين بعد اتساع الخرق على الراقع. أنا لا أستثني أحدًا؛ كل بلد لا استراتيجية له في مواجهة ما يتهدده. من الماء إلى الماء، سوى الصحراء فاغرةً فاها، والأنقاض هي الأنقاض. إننا إذ نلقي نظرةً على خريطة العالم العربي الممزق والمهان، نشعر كأننا نسقط في هوة يأسٍ ما لها قرار. هل انحط العقل السياسي العربي إلى هذا الحد؟ أين غاب المثقفون بعدما كانت تحليلاتهم تغص بها الصحف والمجلات، ولاسيما بعد أحداث (الربيع العربي)؟ ما دور مؤسسات الجامعة العربية التي أبانت قممها عن فشل ذريع في تدبير مآزق هذه المرحلة التي ستجرف الجميع حكامًا ومحكومين؟ لكن مع السواد القاتم الذي تبعث عليه هذه الوقائع في راهننا العربي البائس، فإننا مع ذلك نظل «محكومين بالأمل» على حد تعبير سعد الله ونوس. الضياع العربي والاستقرار الإسرائيلي ولا تُخفي الشاعرة التونسية «زهور العربي» شكوكها في طُهرية الثورات العربية، فتقول .. إن ما نعيشه خطب عظيم، وكلنا نلاحظ مدى استقرار إسرائيل وانشغالها بمصالحها في هدوء غير معهود وهي تسعى لإعادة تقسيم المنطقة (سايكس بيكو جديد) لكنها أكثر حنكة، ركزت فيه على ضرب العرب بالعرب، ضرب الأخ بأخيه ثقافيا وعقائديا وصنعت ظاهرة الدواعش، التي أعادتنا إلى الوراء. إسرائيل تتسلى بنا فتشعل الفتنة بين الأكراد والعرب في العراق وإيران وبين السعودية وإيران وحزب الله وبين سوريا وتركيا وبين اليمن والسعودية، ولا يمكن أن نفصل، فالمحلي يتنافذ على القومي والإقليمي فكما يقال «كلنا في الهم شرق». أين نحن من العالم ونحن منشغلون بلقمة العيش التي باتت عصية، في ظل تفاقم الفقر وتراجعنا الاقتصادي والاجتماعي، إلى متى سنكون مجرد أعواد ثقاب بيد هواة الألعاب النارية، إلى متى سنظل مجرد أجندات ملغومة بيد العالم المتقدم؟ وهل ما زلنا «بلدان العالم الثالث» أم تدحرجنا درجات بعدما ضاع العراقوسوريا واليمن؟ كلها أسئلة تتعب جمجمتي ولا جواب يشفي غليلي، ومع ذلك تظل جذوة الأمل تتقد لتحقيق غد أكرم لأمتنا. عروبة هذا الزمان أما الروائي اللبناني «محمد حجيري» فقد انصب موقفه مفهوم (العروبة) حسب وعي المفكرين والساسة العرب له، فيقول .. حين نسمع رئيس النظام السوري بشار الأسد، يقول إن العروبة لم يبنها العرب، خاصة في سوريا وبلاد الشام»، بل أضاف إليها «معظم الدول العربية»، نشعر بالدرك الذي وصلنا إليه، ونعايشه كل يوم في السنوات الأخيرة. فالنظام البعثي الأسدي، حليف النظام الإيراني الخميني منذ بداية الثمانينيات، الذي دأب على رفع شعار «أمة عربية واحدة» و»دمشق قلب العروبة النابض»، كان يمنع الأكراد من ممارسة أدنى حقوقهم، يفرض عليهم كل وسائل التعريب البعثي، ها هو ينسب اليوم العروبة إلى غير العرب، ولا نعرف من يقصده ببناة العروبة؟ هل هم الأكراد أم الأرمن أم السريان أم الشركس أم الأمازيغ أم الطوارق أم الآشوريون؟ ولا ندري عن أي عرب يتحدث؟ هل يقصد العرب الرحل؟ أو عرب الجزيرة العربية؟ هل يقصد المسلمين السنة ويكابر في ذكر ذلك لأنه يدعي أنه علماني؟ وهل المسيحيون الروم أو الغساسنة ليسوا عربا (وهم أبرز من أسس في العروبة، من البعثي ميشال عفلق إلى اليساري جورج حبش)؟ هل يريد القول إن العروبة هي للأقليات؟ ليس القصد هنا الدفاع عن العروبة أو التنظير لها أو شرحها، بل التلميح إلى نموذج من النماذج التي تشغلني في العالم العربي، وهو خطاب الهذر في زمن الفراغ الرهيب. فبشار الأسد، الذي يحب «التفلسف» والسرد، والعروبة بالنسبة إليه هي تأبيد الجلوس على الكرسي، ربما لا يدري معنى ما يقوله، ربما يريد استقطاب بعض الحلفاء من الأقليات بعدما شرد الأكثرية… واللافت أن أول العروبة القومية أسسه بعض المسيحيين اللبنانيين في إطار مناهضة الوجود العثماني، سرعان ما ترسخت شعبوياً في زمن ثورة جمال عبد الناصر، وبغض النظر عن ثقافة ساطع الحصري وميشال عفلق وصلاح بيطار وزكي الأرسوزي. وإذا كان «أول العروبة» شاهداً على تخلي الأكثرية وتولي الأقلية، وأنه ظل معمداً ب»النار والثأر والدم» كما يذهب إلى ذلك حازم صاغية في كتابه الموسوم بهذا الاسم، فان «آخر العروبة» نراه في زمن يتنامى فيه التمدد الإيراني في العراقوسوريا ومناطق أخرى، وحليفه بشار الأسد الذي يمجد تهجير شعبة ضمن منطق «المجتمع المتجانس»، وهي نزعة فاشية اجتثاثية. وبالمختصر تبدو عروبة بشار الأسد شبيهة بسوريا الآن، فهي، عدا عن هَذَرِيتها، مزيج من قومية سورية فاشية وعسكرية ومطعمة بغطاء قومي فارسي وقومي روسي و»روحية» مذهبية وطائفية». يمور الواقع العربي الراهن بمشاكل سياسية واجتماعية وتربوية وثقافية واقتصادية متنوعة، تُنبئ جميعها بكوننا نعيش انعطافة تاريخية كبرى نعلم إيلامَها ولا نعلم مآلَها. وهي انعطافةٌ صورتُها تشتتُ الموقف العربي حيال القضايا الكبرى، وارتهانُه لقوى خارجية في تدبير الشؤون الوطنية، وضعفُ القدرة على ضمان أمن الناس، فضلا عن تردي الوعي بقيم التسامح والعدل والاحترام وتغول الفردانية والرغبة في السيطرة على الآخر. وقد سعت «القدس العربي» إلى أن تنظر في تمثلات المثقفين العرب لهذه الانعطافة الخطيرة ومواقفهم منها. ثقافة التخريب يقول الروائي الأردني «قاسم توفيق» : إن ما يميز الواقع العربي هو كونه ثابتًا وغير متحول، ويتشكل ثباته من مكوناتِه وخصائصِه غير المتجددة، التي يقف بينها وبين التطور حاجزٌ صلبٌ ليس من السهل عبوره أو تحطيمه. إن الراهن العربي ليس مستحدثًا، فهو في صيرورة ثابثة منذ عقود، ما يتخيله المُراقب للحياة العربية في السنوات الأخيرة، وما يدور بها مِن هزات وكوارث ليس على مستوى الحروب البشعة التي تدور رحاها وتقضي على مئات الألوف من الأبرياء، بل على صعيد الانغلاق الفكري، واستلاب المكون الثقافي العربي من موروثه الجاهلي، يَعرف بأن هذه الحياة قد وَقَفَت في نقطة لا يمكن التزحزح عنها. إن التأثيرات الدرامية التي يشهدها الواقع العربي هي شكلٌ من أشكال تكريس ثباته. ومَن يحسب بأن تغير الأساليب في إبراز الجهل والتعصب بأنه اختلافٌ أو تغيرٌ، فإنه يجانب الصواب، نحن نعيش في الحالة ذاتها من الوعي، وما تبدل سوى أدواتنا وطرُقنا. ولذلك، فإن ما يشغلني بالواقع الراهن هو ذاته الذي كان يشغلني منذ ميلاد وعيي، أزمة العقل العربي، ومحاولاته الهزيلة في حل إشكالية ثباته وعدم تطوره، بالمزيد مِن الثبات والجمود. إن ما وقع من أحداث في السنوات القليلة الماضية في العالم العربي، ليس إلا تكريسًا لحالة الجمود الفكري، الذي يعاني منه العقل العربي، فما سمي «الثورات» أو «الربيع العربي»، التي كانت في ظاهرها كذلك، ثورة وربيعا عربيا، استطاعت بعض الأنظمة العربية برعاية صهيونية أمريكية أن تحولها إلى نقيضها، وإلى أدوات تزيد من استحكام طوق التخلف، وعادت بمجتمعاتنا إلى الوراء، وقدمَت لنا أنموذجًا وحشيا متخلفًا. إن ما يجب أن نفكر في البحث عن إجابة عنه، ليس المأزق المجتمعي العربي الحالي، لكن السؤال المأزق هو .. ما الذي جعل الكثير من المفكرين والمنظرين، والمثقفين والأدباء والفنانين العرب ينحون للاتجاه التخريبي نفسه الذي تمارسه الحكومات، لإبقاء العقل العربي في حالة تخلف ورجعية. هذا ما يشغلني في الواقع العربي، منذ عشرات السنين. إنحطاط العقل العربي من ناحيته يرى الشاعر المغربي «عبد اللطيف الوراري» مأساة ما نعيشه اليوم، فيقول .. بوصفنا مشتغلين بالفكر والأدب، يظل هاجسنا هو المسألة الثقافية بمعناها العميق، من شروط الكتابة إلى آلية توزيع المقروء وتسويقه، مرورًا بإمكانات حفز القراءة ودعم مؤسسات التربية والعمل الجماعي والشبابي. وهو هاجس ضاغط يلح علينا باستمرار، بالنظر إلى الوقائع المستجدة التي نعاينها في واقع الحال، غير أننا لا نفصل هذه المسألة الحيوية عن بقية المسائل الأخرى الأكثر تعقيدًا واستفحالًا، وفي مقدمتها ما هو سياسي. واسمح لي هنا بأن أعبر عن عدم رضاي مما يحدث في واقعنا العربي، بل عن غيظي الشديد منه: عنف، جرائم، قنابل وسيارات مفخخة تودي بأرواح الأبرياء، صراعات وانقسامات سياسية، أطماع توسعية، ثم وهنا المفارقة المضحكة المبكية لا أحد يتحدث عن قضية فلسطين بعد اتساع الخرق على الراقع. أنا لا أستثني أحدًا؛ كل بلد لا استراتيجية له في مواجهة ما يتهدده. من الماء إلى الماء، سوى الصحراء فاغرةً فاها، والأنقاض هي الأنقاض. إننا إذ نلقي نظرةً على خريطة العالم العربي الممزق والمهان، نشعر كأننا نسقط في هوة يأسٍ ما لها قرار. هل انحط العقل السياسي العربي إلى هذا الحد؟ أين غاب المثقفون بعدما كانت تحليلاتهم تغص بها الصحف والمجلات، ولاسيما بعد أحداث (الربيع العربي)؟ ما دور مؤسسات الجامعة العربية التي أبانت قممها عن فشل ذريع في تدبير مآزق هذه المرحلة التي ستجرف الجميع حكامًا ومحكومين؟ لكن مع السواد القاتم الذي تبعث عليه هذه الوقائع في راهننا العربي البائس، فإننا مع ذلك نظل «محكومين بالأمل» على حد تعبير سعد الله ونوس. الضياع العربي والاستقرار الإسرائيلي ولا تُخفي الشاعرة التونسية «زهور العربي» شكوكها في طُهرية الثورات العربية، فتقول .. إن ما نعيشه خطب عظيم، وكلنا نلاحظ مدى استقرار إسرائيل وانشغالها بمصالحها في هدوء غير معهود وهي تسعى لإعادة تقسيم المنطقة (سايكس بيكو جديد) لكنها أكثر حنكة، ركزت فيه على ضرب العرب بالعرب، ضرب الأخ بأخيه ثقافيا وعقائديا وصنعت ظاهرة الدواعش، التي أعادتنا إلى الوراء. إسرائيل تتسلى بنا فتشعل الفتنة بين الأكراد والعرب في العراق وإيران وبين السعودية وإيران وحزب الله وبين سوريا وتركيا وبين اليمن والسعودية، ولا يمكن أن نفصل، فالمحلي يتنافذ على القومي والإقليمي فكما يقال «كلنا في الهم شرق». أين نحن من العالم ونحن منشغلون بلقمة العيش التي باتت عصية، في ظل تفاقم الفقر وتراجعنا الاقتصادي والاجتماعي، إلى متى سنكون مجرد أعواد ثقاب بيد هواة الألعاب النارية، إلى متى سنظل مجرد أجندات ملغومة بيد العالم المتقدم؟ وهل ما زلنا «بلدان العالم الثالث» أم تدحرجنا درجات بعدما ضاع العراقوسوريا واليمن؟ كلها أسئلة تتعب جمجمتي ولا جواب يشفي غليلي، ومع ذلك تظل جذوة الأمل تتقد لتحقيق غد أكرم لأمتنا. عروبة هذا الزمان أما الروائي اللبناني «محمد حجيري» فقد انصب موقفه مفهوم (العروبة) حسب وعي المفكرين والساسة العرب له، فيقول .. حين نسمع رئيس النظام السوري بشار الأسد، يقول إن العروبة لم يبنها العرب، خاصة في سوريا وبلاد الشام»، بل أضاف إليها «معظم الدول العربية»، نشعر بالدرك الذي وصلنا إليه، ونعايشه كل يوم في السنوات الأخيرة. فالنظام البعثي الأسدي، حليف النظام الإيراني الخميني منذ بداية الثمانينيات، الذي دأب على رفع شعار «أمة عربية واحدة» و»دمشق قلب العروبة النابض»، كان يمنع الأكراد من ممارسة أدنى حقوقهم، يفرض عليهم كل وسائل التعريب البعثي، ها هو ينسب اليوم العروبة إلى غير العرب، ولا نعرف من يقصده ببناة العروبة؟ هل هم الأكراد أم الأرمن أم السريان أم الشركس أم الأمازيغ أم الطوارق أم الآشوريون؟ ولا ندري عن أي عرب يتحدث؟ هل يقصد العرب الرحل؟ أو عرب الجزيرة العربية؟ هل يقصد المسلمين السنة ويكابر في ذكر ذلك لأنه يدعي أنه علماني؟ وهل المسيحيون الروم أو الغساسنة ليسوا عربا (وهم أبرز من أسس في العروبة، من البعثي ميشال عفلق إلى اليساري جورج حبش)؟ هل يريد القول إن العروبة هي للأقليات؟ ليس القصد هنا الدفاع عن العروبة أو التنظير لها أو شرحها، بل التلميح إلى نموذج من النماذج التي تشغلني في العالم العربي، وهو خطاب الهذر في زمن الفراغ الرهيب. فبشار الأسد، الذي يحب «التفلسف» والسرد، والعروبة بالنسبة إليه هي تأبيد الجلوس على الكرسي، ربما لا يدري معنى ما يقوله، ربما يريد استقطاب بعض الحلفاء من الأقليات بعدما شرد الأكثرية… واللافت أن أول العروبة القومية أسسه بعض المسيحيين اللبنانيين في إطار مناهضة الوجود العثماني، سرعان ما ترسخت شعبوياً في زمن ثورة جمال عبد الناصر، وبغض النظر عن ثقافة ساطع الحصري وميشال عفلق وصلاح بيطار وزكي الأرسوزي. وإذا كان «أول العروبة» شاهداً على تخلي الأكثرية وتولي الأقلية، وأنه ظل معمداً ب»النار والثأر والدم» كما يذهب إلى ذلك حازم صاغية في كتابه الموسوم بهذا الاسم، فان «آخر العروبة» نراه في زمن يتنامى فيه التمدد الإيراني في العراقوسوريا ومناطق أخرى، وحليفه بشار الأسد الذي يمجد تهجير شعبة ضمن منطق «المجتمع المتجانس»، وهي نزعة فاشية اجتثاثية. وبالمختصر تبدو عروبة بشار الأسد شبيهة بسوريا الآن، فهي، عدا عن هَذَرِيتها، مزيج من قومية سورية فاشية وعسكرية ومطعمة بغطاء قومي فارسي وقومي روسي و»روحية» مذهبية وطائفية».