التلى حرفة تراثية قديمة تمتد لآلاف السنين، اندثرت واختفت، واصبحت فى طى النسيان، لسنين وسنين، عاد «التلى» وهو شكل خاص من أشكال التطريزمرة آخرى إلى الصدارة والواجهة، بإخلاص وجهود محبيه، تجاوز المحنة كأى فن أصيل، تخطى العقبات الواحدة بعد الآخرى، انتشر من قلب الصعيد أسيوطوسوهاج إلى كافة ربوع مصر، والبلاد العربية وبلاد الهند نفسها، واخيرا وصل لأوروبا. ............................................................. لم يعد أحد، لا يعرف ان التلى شكل خاص من أشكال التطريز على الملابس لخيوط كانت فى الماضى مصنوعة من الفضة أو الذهب وأصبحت الآن من الحرير والصوف، وأنواع أخرى من الخيوط القيمة، على قماش التل، خاصة بعد ارتداء الفنانة إسعاد يونس له، والمذيعة منى الشاذلى فى برنامجهما الأشهر والأكثر مشاهدة، كما ارتدته من قبل ملكة مصر (نازلى) فى إحدى الصور الرسمية لها. التلى والتراث... توارثته نساء الصعيد عبر أجيال وأجيال، تعطيه الأمهات لبناتهن كهدية يوم العرس أو فى يوم الحنة، إرث غال وثمين، يضاهى ما يورث من ذهب وفضة، خاصة وهو ينفذ بأيديهن وفى بيوتهن، (توب) جلباب وشال عليه نقشت النساء حكايات تكتب بالرموز، لعل أهمها الاحتفاء بالزواج، وإبراز مكانة العائلة، وكيف حافظت الأسرة على ابنتها منذ الميلاد، وحتى يوم الفرح. تقص حكاية متقنة، وذلك من خلال مجموعة من الرموز والموتيفات المتعارف عليها كمفردات التراث الشعبى، تم حصرها فبلغ عددها 120 رمزا وموتيفة تقريبا، ولم تخرج عنهن الصانعات حتى الآن: المثلث المقفول كحجاب، البيت المربع، شموع، شجرة اللبلاب، الطبلة، الجمل، الهودج، الفارس، النخلة، الإبريق، العروسة، الجامع، الكنيسة، حقول القصب التى ستمر عليها فى طريقها لبيت زوجها... إلخ. لينتج فى النهاية قطعة فنية شديدة الثراء شكلاً ومضموناً. هذه الرموز تكون أشبه بالكتابة الهيروغليفية، مما يرجح أن له أصولا فرعونية. كان يصنع قديما من قماش واحد (التل) بضم التاء، وله مصدر واحد، وغالبا ما كان يأتى من الهند، أما الخيوط أشرطة التلى فتستورد من بعض الدول الأوروبية، وتتميز كل بلد بألوان خيوطها المختلفة عن الأخرى، فالتلى الفضى يأتى من ألمانيا، أما التلى الذهبى فيستورد من فرنسا، وهو من أجود أنواع الأشرطة وهو مغطى بطبقة سميكة من الذهب، ويمتاز بالمرونة التى تساعد فى التطريز، بالإضافة إلى قوة لمعانه، أما التلى المستورد من التشيك فهو النوع العريض، وهو قليل الاستعمال، وهناك أنواع من الخيوط أقل جودة تأتى من الهند والصين وباكستان، عملية الاستيراد هذه جعلته يقاوم الانتشار بين الناس، فيكون نادرا وثمينا، وتزداد قيمته، وتضيف له فى نفس الوقت هيبة وإجلالا، ومما زاد من مكانته ان (التوب) يستغرق فى صناعته شهورا، قد تقترب من العام، فلا تكفى النقود فقط وان كثرت لاقتنائه، فلا تملكه أى عروس بل العروس بنت العائلات، ذات الشأن الكبير. ووصل إلى القمة، عندما أهداه محمد على باشا والى مصر إلى ملكة إنجلترا، وكعادة الملوك هناك، أحتفظت بالهدية فى متحف بلادها، وتحديدا متحف فيكتوريا ألبرت فى لندن، سجلت أسفله كل البيانات، لعل أهمها، صنع فى صعيد مصر. إحياء حرفة التلى.. صورت أحدى السيدات الانجليزيات حديثا صورة (التوب) من المتحف، وأتت بالصورة للصعيد مصر، فى أواخر الثمانينات من القرن الفائت، تسأل عن أصل التوب وكيف نشأ وما شابه، وكانت صدمتها بالغة حين اكتشفت أن هذا الفن لم يعد له وجود منذ الثلاثينات من القرن الماضى... لكنها فى نفس الوقت فتحت الأبواب الموصدة لإحياء حرفة التلى. التلى فى أسيوط... التلى فى أسيوط، له بيت شامخ، يقبع على شط ترعة الإبراهيمية، ولن أكون مبالغا إن قلت أصبح مزارا يضاهى المزارات الأثرية بالمدينة، فإذا زرت أسيوط لابد لك أن تزور الأديرة والكنائس والوكالات ثم بيت التلى. بجهد الفنان التشكيلى سعد زغلول، حافظ على حرفة التلى التراثية، منعها من الاندثار منذ زيارة السيدة الأنجليزية لأسيوط وحتى الآن، عانى من صعوبات البدايات والتعريف بالحرفة وأصلها، حتى انه أفرد له فصلا كاملا من كتابه (العمر وسنينه). درب أكثر من مائة فتاة، على يد سيدة مسنة تجاوزت السبعين كانت آخر من يعرف أسرار هذه الصناعة بأسيوط واستطاعت أن تنقل خبرتها وفنها للجيل الجديد، أقام المعارض وروج للمنتجات داخل مصر وخارجها، وعانى من ضعف التمويل وقلة التسويق، استضاف الباحثين والدارسين، وتعامل مع التلى كمورث يجب الاعتناء به، كالحفاظ على الهوية، والقيم المصرية، تعامل معه فى الأغلب بحس الفنان المثقف الواعى لقيم التراث الجليلة، ليعيد للتلى بعضا من مكانته. تحركت الفتيات هنا وهناك، والمائة أصبحن ألفا، ذهبن بحرفتهن التى تعلمنها إلى الكثير من الجمعيات الأهلية وغيرها. التلى فى سوهاج... فى سوهاج انتشر أفقيا، ففى جزيرة شندويل تحديدا تعلمت كل بنات الجزيرة حرفة التلى، اتخذته أغلبهن كحرفة ومهنة تدر دخلا، جمعن الفتيات فى جمعية واحدة، ولما كان يحتاج لتقنية وصبرا تلقفته النساء بنفس حماس السيدة الانجليزية، والجمعية تواصلت مع اليونيسيف، لإحياء الحرف التراثية، وكذلك مركز تحديث الصناعة تحديدا فى 2009م، فتحقق له الكثير من الانتشار، وإن ظل يعانى من ضعف التمويل والتسويق. التلى يواكب المتغيرات وينتصر...مع ثورة المعلومات والفضاء الالكترونى استفاد التلى من هذه المتغيرات بشدة، من تسويق وتواصل مع منتجين الخامات، وكذلك أصحاب مصانع القماش فى مصر وخارج مصر، وكذلك ساعد فى التسويق، فأصبحت المعارض تقام له فى القاهرةولندن وروما، سواء كان يحدث ذلك بشكل فردى أو فى معارض جماعية كل بشطارته لعل أشهرها المعرض الذى افتتح داخل (بيت الهدايا) الكائن بالمتحف المصرى بالقاهرة العام الفائت، وظهوره كمنتج بيت أزياء (ديور) فى مجموعة ربيع 1998م، وربيع 2007م.. وغيرها. وأصبح من المألوف سفر التلى والفتيات العارضات لكل جزء من العالم. وكان قديما لا يصنع إلا من قماش واحد، يأتى من الهند، ثم فى مصنع واحد بمصر يتحكم ويضيق الخناق على أصحاب المهنة حتى استطاعت السيدات فى سوهاجوأسيوط تطويعه ونقشه على أى نوع قماش، يأتى من اى مكان، بدأ من شيلان الفركت والشيفون وغيرها. وان ظلت خيوط التطريز غير متوافرة فى مصر وان كانت هناك جهود مضنية لإنتاجها فى مصر مع الاحتفاظ بالرونق والموتيفات ودقة الصنع كما هى. هذا وبالإضافة لدخول أكثر من مصمم أزياء مصرى لتجميل التلى وإضافة لمسته عليه، فتخطى بمسافات كونه جلبابا وشالا فقط، إلى أحدث الصيحات العالمية، وكذلك صنع تصاميم تصلح للرجال، بعدما كان مقصورا على النساء فقط حيث ارتدى النجم (توم كروز) وشاحًا من التَلّىِ فى فيلمه Rock of Ages عام 2012م. إلى جانب فتح آفاق جديدة لاستحداث تصميمات جديدة للموتيفات الشعبية، لإضفاء طابع الأصالة والمعاصرة معا. حتى طالب البعض بفتح مركز للتلى فى القاهرة، أو إنشاء دبلوم خاص لفن التلى، يدرس فى المدارس المصرية كافة. وبهذا وبعد كل هذه السنين وجهد الأوفياء لهذا الحرفة التراثية، أستطيع القول براحة بال لقد انتصر التلى.