سقطت هيبة الحكومة يوم أن تراجعت عن قرار تعيين محافظ قنا بسبب احتجاجات البعض من أبناء هذه المحافظة. وأرسلت الحكومة يومها بعض الوعاظ والسياسيين لاسترضاء الغاصبين لحق الحكومة في تعيين محافظ. منذ ذلك التاريخ اختلط كل شيء في مصر وكانت الحرية التي خرج ينادي بها شباب ثورة يناير هي أولي ضحايا الخلط والاضطراب الذي أصاب قطاعا كبيرا من المصريين. أصبح قطع الطرق والسكك الحديدية وتعطيل العمل ومصالح الناس والغش الجماعي والعدوان علي الأطباء في المستشفيات والإسفاف الذي نعيشه علي شاشات التليفزيون وصفحات الصحف عنوانا علي الحرية الجديدة في بلادنا. هذه الأفعال العبثية تلقي في كل يوم تشجيعا من وسائل الإعلام وتغطية مكثفة لاتستحقها مثل تلك الأفعال. في مصر سحابة من الحرية تلقي بظلالها علي الإبداع والإسفاف, علي الفوضي والنظام, علي الحقيقي والمكذوب وعلي متناقضات كثيرة ملأت الحياة من حولنا. الذين خرجوا منذ أيام دفاعا عن حرية الإبداع كان خروجهم نبيلا. وكنت أتمني لو أنهم قالوا للناس أين هو الإبداع في حياة المصريين الآن حتي تصبح دعوتهم عقيدة مصرية ندافع عنها جميعا. الحقيقة هي أن واقعنا خال تماما من الإبداع ومليء بالإسفاف في السياسة والتعليم والإعلام. هؤلاء المبدعون المحتجون في الحقيقة كانت لديهم مخاوف مستقبلية أن تزيد الضغوط والقيود فتمنع المبدعين الحقيقيين أو أصحاب الرأي من التعبير عما يرونه نافعا لسلامة المجتمع. وهذا مقصد نبيل ولكن خوفهم من المستقبل دفعهم إلي تجاهل الإسفاف الراهن. لقد استقر في وجدان الجميع أن الحبس في جرائم النشر غير مقبول, بل أصبح شيئا معيبا في حق الدول التي تعمل به. وفي المقابل فإن الصحافة والإعلام مهنة لها خصائصها وآدابها وأخلاقياتها وأولي بالذين يعملون بها أن يلتزموا أصول المهنة التي يعملون بها. الصحفيون أنفسهم يعرفون جيدا أن كثيرا من الممارسات الصحفية الراهنة ليست من مهنة الصحافة في شيء وإنما هي مجرد تخرصات منشورة علي صفحات جريدة. أما في عالم التليفزيون فالجريمة أكبر. ثلاثون يوما في شهر رمضان تعرض المصريون لأسوأ ما يتعرض له شعب من إسفاف درامي. عالم من الجريمة والجنس والعري والسكر والسوقية والخيانة والمخدرات والسذاجة المفرطة إلي حد اختزال مقاومة إسرائيل في سرقتها وتصويرها دولة ساذجة بلهاء حتي يذهب بطل المأساة الدرامية بثلاثين مليونا من الجنيهات كما يقولون. أحالت دراما التليفزيون في رمضان حياتنا إلي مستشفي جماعي للأمراض العقلية. تخللتها فقرات مطولة من التسول الخيري وإعلانات اقتصاد الأشياء التافهة. لم تترك دراما رمضان جريمة أخلاقية أو اجتماعية دون أن تبرزها بل وتزينها أحيانا. تجرع المصريون هذه الوجبة الدسمة من الانحطاط الأخلاقي تحت ظلال الرغبة المقدسة في حماية حرية التعبير والإبداع. لم يتحرك مبدع واحد يحذر الجميع من عاقبة هذا الانتحار الأخلاقي. كان جديرا بالمبدعين أن يتحدثوا وينبهوا إلي أننا بحاجة إلي الحرية التي نبني بها وإلي الإبداع نعظم به قدراتنا علي البناء وعلي التصحيح. وفي زحمة الخلط بين المتناقضات جاءت نتيجة الثانوية العامة لتخبرنا كذبا أننا أصبحنا شعبا من المبدعين. أو لم يحصل مئات الألوف من أبنائنا علي أكثر من90% من النهاية العظمي لأصعب امتحانات التعليم. انتشينا وانعقدت المؤتمرات الصحفية وأرسلنا وفود المتفوقين منهم إلي رحلات خارجية حتي يري العالم إبداع المصريين. ثم اكتشفنا أن المبدع الحاصل علي97% لم يستطع أن يحجز له مكانا في الكلية التي يريد الدراسة بها. بعض كليات الطب لم تقبل من كان مجموع درجاته أقل من100% فهل رأيتم إبداعا أرفع من ذلك. لازلنا رغم الثورة وحديث النهضة نتظاهر بأن لدينا تعليم وسوف نظل نفعل ذلك لفترة طويلة مقبلة. كانت امتحانات الثانوية العامة ترجمة دقيقة للمصطلح الأمريكي الفوضي الخلاقة. فقد أوصلتنا فوضي التعليم والامتحانات والكتب الخارجية والدروس الخصوصية والغش الجماعي إلي ذلك التضخم العبقري الخلاق في المجاميع فوقف التلاميذ عاجزين أمام بعض الكليات النظرية بمجموع يناهز الخامسة والتسعين. ومن كان قادرا علي مصروفات الجامعات الخاصة وقف عاجزا أيضا ولديه هذا المجموع العبقري من الدرجات. فقد أوصدت وزارة التعليم العالي أبواب الجامعات الحكومية والخاصة في وجوههم. وهي محقة في ذلك فهي تعرف الحقيقة المرة فمجموع الثانوية العامة أصابه من التضخم ما أصاب الجنيه المصري. لن نفقد الأمل في الفصل بين الإبداع والإسفاف ولن يتحقق ذلك إلا أن يتحمس المبدعون للدفاع عن كل ما يحمل قيمة الإبداع الحقيقية وألا يتحول دفاعهم لدي البعض إلي كلمة حق يراد بها باطل. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين