المسافة من مصر إلى العراق بالطائرة ساعة ونصف الساعة تخصم من توقيت القاهرة ساعة تقريبا، غمرت الطائرة زخات الأمطار وهو مشهد لم أعهده من قبل.. وكانت هى المرة الأولى التى أسافر فيها وقت الظهيرة وكنت أرقب شباك الطائرة وهى تميل غائصة بين جبال من سحاب تشبه جبال الملح، هيئ لى أننا قد نصطدم بقمة منها، فقد تخيلتها هلامية أو مطاطية يمكننا أن نقفز عليها ونرتد إلى الطائرة العراقية التى بدت لى على ضخامتها، كحيوان الفقمة الذى يتدحرج متلويا على زعنفتيه فوق جليد السيرك يتلوى ويلتف وازنا كرة كبيرة تتراقص فوق أنفه المدبب فتهتز يمينا ويسارا بمهارة ولا تسقط أو تتدحرج فيحبس الجمهور أنفاسهم انتظارا لانتهاء عرضه ليهيلون عليه التصفيق ممزوجا بآهات الأطفال وزقزقاتهم حبورا، يزحف وجسمه الأملس المكتنز بالدهن مرتكزا على ذيل كبير كعجوز يدب على الأرض بعصاه وهو يترنح ويلتف بجسده مصفقا بجناحيه أو زعنفتيه ولا تسقط الكرة دون تعب من ذلك الثقل الذى يحمله داخل جلده الأملس وتارة تشبه هضاب السحب كوكبا باردا ثلجيا يحيطه الدخان وتمتلئ جنباته بفتحات أفواه البراكين الخامدة فتجعل الأرض حولها كأكوام الصابون ومسحوق الغسيل وبلورات ورغوة البالونات المتلونة بزرقة السماء ورمادية السحب. حوالى نصف ساعة مرت وأنا غارق فى هذا المشهد الذى ملأنى بخيالات وهواجس معجونة بأساطير بغداد الساكنة فى حكايا ألف ليلة ومجالس أنس هارون الرشيد ولص بغداد وتلك الأميرة المحبوسة بالقصر مسدلة عليها الستائر.. تلبس البنطال الحريرى الشفاف تطل من مقصورة القصر ترقب الرائح والغادى والجوارى يهزون على رأسها مراوح من ريش النعام وهى تلهو بوردات بين يديها تلقيها من الشباك على رأس السندباد، وأفقت على صوت المضيفة الموصلية ذات العيون الساحرة الواسعة والبشرة البيضاء والشعر المخملى الأسود الذى ينسدل على وجنتيها تعلن اقترابنا من المطار، لتلوح بعدها الأراضى الخضراء البعيدة والمبانى المتناثرة فى تعاريج صفراء وخضراء فى جلد الأرض البعيدة ذكرتنى بالشاعر الجاهلى زهير حين مر في سفره ببقايا بيوت المحبوبة أم أوفى فبكى أطلالها بمعلقته "وَدَارٌ لَهَا بِالرَّقْمَتَيْنِ كَأَنَّهَا مَرَاجِيْعُ وَشْمٍ فِي نَوَاشِرِ مِعْصَمِ ".. " وَقَفْتُ بِهَا مِنْ بَعْدِ عِشْرِينَ حِجَّةً فَلأيَاً عَرَفْتُ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ ". اخذت تطاردنى آثار الديار البائدة والقبيلة، ولم لا ونحن فى صدد حضور أكبر مؤتمر لاستعادة آثار العراق حتى أعلنت المضيفة دخولنا سماء يغداد، فتوقف خيالى عن البث.. وتوقف ديكى عن الصياح، منتظرا عودتى للحكاية ذات صباح. لمزيد من مقالات ياسر عبيدو