مبانى العشوائيات الكالحة، والرائحة النفاذة المنبعثة من حظائر البهائم ومجاري الصرف المنتشرة بها، وأكوام القمامة المتراكمة على أطرافها؛ هذا المشهد هو أسوأ ما يمكن أن تشاهده عين فى المدينة. لا يحب الموسرون من أهل المدن النظر للعشوائيات، لهذا نجد الأسوار العالية وقد أقيمت حولها لتخفيها عن أعين قائدى السيارات المارين على الطرق المحيطة. أسوار إخفاء العشوائيات مشهد مألوف فى جوهانسبرج وكيب تاون وريودى جانيرو والقاهرة ومومباى ومكسيكو سيتى وكراتشي، فالعشوائيات ليست شيئا يميز بلدا دون غيره، ولكنها ظاهرة موجودة فى كل مكان يوجد فيه فقر وتفاوت اجتماعى وحكومات تئن تحت عجز الموازنة، وبيروقراطية محدودة الكفاءة فاسدة. الأسوار المحيطة بالعشوائيات لا تخفى حقيقة أن هناك بشرا يعيشون خلف هذه الأسوار وسط قبح وقذارة لا تطاق، وأن ما لا يستطيع البعض احتمال منظره أو رائحته، يمثل الحياة اليومية للملايين من سكان المدن, فوفقا لتقديرات البنك الدولى تبلغ نسبة سكان العشوائيات بين سكان المدن 11% فى مصر، 8% فى تونس، 17% فى الأرجنتين، 55% فى بنجلاديش، 22% فى البرازيل، 25% فى الصين، 74% فى إثيوبيا، 24% فى الهند، 13% فى المغرب، 23% فى جنوب Nفريقيا، 92% فى السودان، 12% فى تركيا. حتى البلاد الغنية المتقدمة لم تسلم من العشوائيات، ففى عصر الثورة الصناعية التى بدأت فى منتصف القرن الثامن عشر هاجر الملايين من القرويين للعمل فى المدن والمراكز الصناعية، فطبعت الأحياء العشوائية الفقيرة المدينة بطابعها، لدرجة ألهمت المؤلفين لإنتاج بعض من أفضل الآداب العالمية التى تناولت بؤس العمال الفقراء فى المدن المزدهرة، وما روايات أوليفر تويست و ديفيد كوبر فيلد لتشارلز ديكنز، والبؤساء لفيكتور هوجو سوى وصف أدبى للحياة فى عشوائيات لندن وباريس فى القرن التاسع عشر. وفى عظة شهيرة قالها عام 1850 الكاردينال ويسمان، أول أسقف كاثوليكى لمدينة لندن منذ تحولت إنجلترا إلى البروتستانتية فى القرن السادس عشر، تحدث الأسقف ويسمان واصفا المنطقة المعروفة بأرض الشيطان فى حى ويستمينستر، فقال إنه بالقرب من كنيسة ويستمينستر توجد متاهة خفية من الحوارى والأزقة والعشوائية وأوكار الجهل والشر والحرمان والجريمة والبؤس والتعاسة والمرض، شهيقها التيفوس، وزفيرها الكوليرا؛ إنها خلية هائلة تضم عددا لا يحصى من البشر - لكن اسما فقط الذين يعيشون فى منطقة لا يصلها الصرف الصحى ولا تضيئها أعمدة الإنارة؛ فهل يختلف هذا عما يمكن قوله فى وصف عشوائيات القاهرة ودكا وريو دى جانيرو ومكسيكو سيتى ومومباي؟ العشوائية ليست مجرد حى يسكنه بعض الناس، إنها طريقة حياة وتفكير وثقافة, فعندما يبيت الناس ويصحون وسط كل هذا التلوث المادى والروحي، ووسط كل هذا الانتهاك للآدمية والخصوصية، وعندما يولدون ويموتون هناك، فإن العشوائية تنفذ إلى ما تحت الجلد، وإلى داخل العقل والروح، فتصبح طبيعة ثانية، كما لو كان الناس يولدون بها كجزء من شفراتهم الوراثية، يحملونها معهم أينما ذهبوا. فالعشوائية لا يمكن حصرها وراء الأسوار المحيطة بالعشوائيات، وأى محاولة لحصرها وراء الأسوار، أو التحصن منها وراء أسوار المجمعات السكنية الفاخرة ذات الأسوار والبوابات، ليست أكثر من محاولات فاشلة للدفاع فى حرب خاسرة، فالعشوائية ما أن تعرف طريقها إلى المدينة إلا وتمنح المدينة طابعها الكريه المميز, ولا سبيل لكسب هذه الحرب إلا بالهجوم على العشوائيات إزالة وإحلالا وتطويرا، ففى تطوير العشوائيات رحمة بأهلها، ورحمة بجيرانهم ومواطنيهم من سكان المدينة الآخرين. القضاء على العشوائيات، واستبدالها بمساكن آدمية لائقة ليست بالمهمة السهلة. لقد احتاجت انجلترا إلى قرن كامل للقضاء على العشوائيات، فحتى بعد الحرب العالمية الثانية كانت الجيوب العشوائية مازالت موجودة فى العاصمة البريطانية. الأخطر من هذا هو أن العشوائية قادرة على العودة ثانية ما لم نحصن المجتمع بأنظمة قانونية وإدارية كفء وعادلة. فالمحاولة الراهنة لمواجهة تحدى العشوائيات فى مصر ليست المحاولة الأولى، فقد كانت لدينا محاولات سابقة فى الخمسينيات والستينيات، حين تم بناء مشروعات الإسكان الشعبى فى حدائق زينهم وعين الصيرة والساحل والأباجية والزاوية الحمراء، وغيرها. فى البداية كانت هذه المشروعات نماذج للانضباط والنظافة والالتزام بقواعد البناء. لكن شدة الغربال الجديد لا تدوم، فبعد فترة ساد التراخى والفساد والتواطؤ والمنفعة المتبادلة بين الأهالى والموظفين لتخريب المنطقة, والآن احتلت المحال التجارية والورش الأدوار الأولى، وزادت مساحات المبانى فى جميع الاتجاهات، فالشقة التى كانت غرفتين أصبحت ثلاث أو أربع غرف على حساب الأرصفة والشوارع, وضاقت الشوارع الواسعة، بل إن بعضها تم إغلاقه تماما، واختفت المساحات الخضراء إلا من قليل من الأشجار العنيدة. لقد بدأت هذه المشروعات للسكن بالإيجار، لكنها انتهت إلى أن أصبحت ملكا لسكانها. فى البداية كانت الدولة تتقاضى إيجارا مناسبا من السكان، لكن مع مرور الوقت، وبسبب التضخم السريع فى السبعينيات، أصبحت حصيلة الإيجارات أقل من التكلفة اللازمة لمواصلة صيانة المباني، فيما كانت العقيدة الاشتراكية والاعتبارات السياسية تحول دون زيادة الإيجارات لتتناسب مع تكلفة الصيانة المتزايدة. أصبح العبء كبيرا على الدولة المأزومة ماليا بعد سنوات الحرب الطويلة، فلجأت الدولة فى منتصف السبعينيات إلى التخفف من العبء، وتمليك الشقق لساكنيها، على أن يتحملوا تكاليف صيانتها. ارتاحت الدولة، وفرح الملاك الجدد، وراحوا يعبثون بأملاكهم، ويمارسون فيها كل أشكال التشويه والتدمير متحررين من الدولة التى رفعت يدها عن كل شيء، فتحولت المساكن الشعبية الجميلة إلى عشوائيات جديدة. أكاد أجزم بأن هناك اليوم من يتحين الفرصة لكى يفعل الشيء نفسه فى المشروعات الرائعة التى تبنيها الدولة فى الأسمرات والمحروسة وبشاير الخير. فالبعض بين المواطنين وموظفى الإدارة والأحياء لا يصدقون أن ما يحدث هذه المرة يختلف عما حدث قبل ذلك، ولا يرون فيما يجرى سوى شدة الغربال الجديد؛ فدعونا نثبت أنهم على خطأ هذه المرة. لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبدالجواد