يبدو أن هناك توجها رسميا لمواجهة مشكلة العشوائيات في مصر، ظهر بقوة منذ استحداث وزارة الدولة للتطوير الحضارى والعشوائيات في حكومة المهندس إبراهيم محلب الثانية. وقد تكررت التصريحات الرسمية سواء من وزيرة التطوير الحضارى والعشوائيات الدكتورة ليلى إسكندر أو من الرئيس عبد الفتاح السيسى حول الاسترشاد بالتجربة البرازيلية في تطوير العشوائيات. وفى واقع الأمر أن البرازيل دولة تمتلك خبرة رائدة وجديرة بالدراسة في القضايا المتعلقة بالطبقات الفقيرة مثل العشوائيات وأطفال الشوارع والجوع والبطالة وسياسات الدعم والإعانات الاجتماعية. كما أنها طورت برامج ناجحة في مواجهة تلك المشكلات ساهمت بقوة في رفع مستوى معيشة ملايين الأسر البرازيلية الفقيرة. وفى السطور القادمة نلقى الضوء على الخبرة البرازيلية الناجحة في مجال تطوير العشوائيات. تشخيص المشكلة يبلغ عدد سكان البرازيل ما يزيد على 190 مليون نسمة وهم يمثلون 57 مليون أسرة. ووفقا لآخر تقديرات متوافرة (2008) هناك 3 ملايين أسرة تسكن في مدن عشوائية، كما تعانى 11 مليون أسرة من نقص في الخدمات الأساسية مثل الكهرباء وشبكات الصرف وجمع القمامة. وتعتبر البرازيل من أكثر دول العالم التي تحتوى على أعداد كبيرة من العشوائيات. ويطلق عليها البرازيليون اسم فافيلا «Favela» وأصبحت الكلمة البرتغالية ذائعة الصيت لدرجة أنه غالبا ما تستخدم حتى في الدراسات باللغة الإنجليزية. بل وأصبح عدد من الفافيلا مقصدا سياحيا لأى زائر للعملاق اللاتينى وبالأخص لمدينة ريو دى جانيرو الساحلية والسياحية. وليس مبالغة إذا قلنا أن دراسة العشوائيات في البرازيل هو في واقع الأمر دراسة لعشوائيات ريو العاصمة السابقة للبلاد. بصورة عامة فقد أدت عقود طويلة من الحكومات اليمينية والعسكرية إلى حدوث فجوة كبيرة بين أغنياء وفقراء البرازيل طوال القرن العشرين وربما قبل ذلك أيضا. وساهمت الهجرة المتزايدة لفقراء المزارعين من الريف إلى المدن وعلى رأسها العاصمة القديمة ريو بحثا عن فرص عمل في الحضر إلى ظهور العشوائيات كبديل لهؤلاء المهاجرين عن امتلاك او استئجار مساكن قانونية. وقد زاد من حدة الظاهرة سوء إدارة الحكومات المتعاقبة في عدم مواجهة المشكلة في بدايتها. حتى وصل الأمر الى ظاهرة خطيرة تكمن خطورتها في تردى مستوى حياة المواطنين بداخلها. بالإضافة الى اعتبارها مصدرا متجددا لضخ العمالة في التشكيلات العصابية والبؤر الإجرامية التي ارهقت السياسة الأمنية في البرازيل، وشكلت خطرا مباشرا على حياة ومصالح الأغنياء في المدن القريبة منهم. الجهد المشترك بدأت جهود البرازيل في مواجهة قضية العشوائيات منذ بدايات التحول الديمقراطى في الثمانينات. واتسمت بشكل عام بكونها مبادرات محلية على مستوى المدن وبتمويلات محدودة وأعمال تطوعية. ومنها على سبيل المثال (مشروع الجهد المشترك) «Projeto Mutirão» الذى بدأ في مدينة ريو في العام 1981 والذى هدف لإدخال بعض الخدمات الى العشوائيات مثل شبكات المياه ورصف الطرق وشبكات الصرف تحت رعاية الإدارة المحلية وعمل مهندسين متطوعين. أما منذ الألفية الثالثة وخاصة مع بداية رئاسة لولا دا سيلفا في 2003، ذلك الرئيس اليسارى الذى عاش طفولته وشبابه داخل العشوائيات، أصبح تطوير العشوائيات توجها حكوميا على مستوى الدولة والحكومة الفيدرالية وتم رصد ميزانية كبيرة لهذا الغرض. ومن ثم، اتخذ الرئيس السابق لولا قرارات فيدرالية جديدة منها انشاء وزارة المدن في 2003، وصياغة السياسة الوطنية للإسكان، وإنشاء النظام الوطنى لتمويل الإسكان. وأيضا انشاء مجلس المدن في 2004 وهو أداة هامة للإدارة الديمقراطية للتنمية الحضرية حيث يتكون من 86 شخص من تخصصات مختلفة يتم انتخابه من البرلمان ويقوم بعمل الدراسات وتقديم التوصيات للوزارة وأيضا متابعة تنفيذ برامج تطوير المدن. وقد ساهمت هذه القرارات فى تنفيذ رؤية حكومية ذات شقين، الأول: علاجى يهدف الى تطوير العشوائيات الموجودة بالفعل. والثانى: وقائى يهدف الى منع تكرار انشاء عشوائيات جديدة تمثل عبئا على حكومات المستقبل. البرامج العلاجية تبنت البرازيل سياسة تطوير العشوائيات في مكانها بعد فشل طريقة التطوير بالنقل لبعض الحالات، وذلك لارتفاع تكلفة عملية النقل بالإضافة إلى الأضرار الاقتصادية والاجتماعية على سكان العشوائيات والذين اعتادوا السكن في نطاق جغرافى ارتبط بأماكن عملهم والأسواق ومدارس ابناءهم وعلاقاتهم الأسرية، على نحو ما توضحه النقاط التالية: (1) برنامج خطة تسريع النمو «PAC» قامت الدولة بإطلاقه فى العام 2007 والهدف منه هو تنمية الأقاليم المهمشة، والتى يعانى سكانها من الفقر والجوع. ويتكون البرنامج من ثلاثة محاور للتطوير داخل تلك المناطق. ويحمل أحد محاوره اسم (خطة تسريع النمو للعشوائيات) «PAC Favela». وتشير الأرقام الى أنه من 2007-2010 استفاد من البرنامج 1.2 مليون اسرة وتم انفاق 8.4 مليار دولار. وفى الفترة من 2011-2014 في حكومة روسيف تم انفاق 14.1 مليار دولار أخرى على العشوائيات، ومازال المشروع مستمرا. وعمل البرنامج على حل مشاكل المباني داخل العشوائيات، إما بإعادة بناءها في مكانها أو إصلاحها في الحالات التي تحتاج فقط أعمال صيانة مثل إضافة الحمامات او تركيب اسقف وأعمال الترميم والإصلاح بشكل عام. بالإضافة إلى مشروعات كبيرة لتوفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء وشبكات الصرف والمياه. من جانب أخر بناء مرافق داخل تلك المدن او على أطرافها لتوفير خدمات رياضية وثقافية وصحية وتعليمية للسكان لتحسين مستوى معيشتهم وتمتعهم بحقوقهم المشروعة في حياة طبيعية. وكذلك حل المشكلات القانونية الخاصة بأوراق تسجيل ملكية المنازل او عقود الايجار للسكان لتقنين أوضاعهم وشعورهم بالاستقرار والاندماج في الحياة الحضرية بصورة رسمية وقانونية. والمهم والمبتكر في البرنامج هو توفير فرص عمل لسكان تلك المناطق، حيث اشترطت الحكومة على كافة الشركات الخاصة المتعاقد معها من اجل اتمام أعمال البناء والصيانة والبنية التحتية توظيف اهالى المنطقة فى مشروعات تطويرها. (2) المساعدات المالية المباشرة لسكان العشوائيات إن تطوير العشوائيات لا يقتصر فقط على تطوير المدينة او الخدمات والمرافق الموجودة داخلها، بل أيضا مستوى دخل قاطنيها. وهو الامر الذى بدأته حكومة لولا منذ الشهر الأول لرئاسته في 2003 وحتى قبل برامج تطوير المدن ذاتها. ويأتي في مقدمة البرامج الحكومية لهذا الغرض برنامج (بولسافاميليا) للإعانات المالية التى تقدم للأسرالفقيرة. ويتم صرف المدفوعات للأسر المستحقة من خلال بطاقات إلكترونية عن طريق النظام المصرفي. وتُعطى المساعدات فى صورة مبالغ مالية وليس عينية، وذلك للمساهمة فى تنشيط أعمال أصحاب المحلات الصغيرة داخل العشوائيات، ومن ثم تعظيم المكاسب الاقتصادية بين ابناء الطبقات الفقيرة وسكان العشوائيات بدلا من تكدس تلك المكاسب لدى كبار الموردين والشركات فى حالة اعطاء المعونات فى صورة سلع تموينية. (3) تحسين الأمن داخل العشوائيات لعل من أكبر مشكلات العشوائيات في البرازيل وخاصة ريو دي جانيرو هو توطن الجريمة وعصابات المخدرات وتجار الأسلحة داخل تلك المناطق، وهو ما أدى الى لجوء الكثير من سكانها سواء الشباب او حتى الأطفال للعمل مع هذه العصابات. وعلى المستوى الأمنى ظلت الشرطة خارج المناطق العشوائية تماما مما أدى الى زيادة انتشار الجريمة. واقتصر عملها في العقود السابقة على حماية المناطق الغنية والمتحضرة من هجمات ساكنى العشوائيات والجريمة القادمة منها. مما أدى الى ظهور سلوكيات غير قانونية لرجال شرطة أو عناصر أمنية مأجورة من قبل الطبقات الغنية ورجال الأعمال تقوم بعمل هجمات مسلحة على العشوائيات من فترة لأخرى مما يؤدى الى قتل أبرياء في خلال المواجهات مع افراد العصابات ودائما ما كان غالبية الضحايا من الأطفال. ولهذا استحدثت مدينة ريو دى جانيرو في 2008 فكرة انشاء قوات شرطية خاصة بالمناطق العشوائية فقط عُرفت اختصارا بUPP بدأتها بمركز واحد، ووصلت الأن إلى نحو 40 مركز تعمل في 100 عشوائية. وخلافا للنمط التقليدي لقوات الشرطة التي اعتاد سكان العشوائيات أن يروهم على فترات بعيدة وهم يهاجمون أفراد العصابات ويطلقون النيران العشوائية. اصبح سكان تلك العشوائيات يعتادون رؤية رجال شرطة بشكل يومى وطبيعى وعلى درجة عالية من التدريب والتأهيل للتعامل مع سكان تلك الاحياء الفقيرة والتدخل لحل الصراعات الداخلية والتواجد المستمر، وهو ما تقبله السكان بارتياح شديد وأضاف قدرا اكبر من الأمن وحد من انتشار نشاط العصابات بين سكان تلك المناطق. (4) دمج العشوائيات في الحياة الطبيعية للمدن قدمت مدينة ريو نموذجا مبتكرا وتفكيرا خارج الصندوق عندما تعاملت مع العشوائيات باعتبارها معلما من معالمها المميزة، حيث غالبا ما تجد زيارة المناطق العشوائية مثل مدينة «روشينا» على قائمة الزيارات السياحية وخاصة للسياح الأوروبيون، الذين ينبهرون بزيارة تلك العشوائية الكبيرة بمبانيها الصغيرة والمتراصة بشكل عشوائى مخالف لما اعتادوا عليه في مدنهم الأوروبية والواقعة في حضن مرتفعات الغابات، يتجولون بين شوارعها الضيقة وسط ظروف امنيةافضل كثيرا. بالإضافة إلى مهرجان ريو الذى يعقد في فبراير (صيف البرازيل) من كل عام ويجتذب عددا كبيرا من السياحة الخارجية لمشاركة سكان المدينة بما فيهم قاطنو العشوائيات في كرنفال رقصات السامبا الجماعية على انغام الموسيقى بدون تفريق بين مواطن او سائح او سكان المدن أو العشوائيات. البرامج الوقائية لا تقتصر الخبرة البرازيلية على حل مشكلة العشوائيات القائمة بالفعل، بل تخطت ذلك لتدارك تكوين عشوائيات جديدة في المستقبل ومن ثم سعت لتبنى برامج طموحة للإسكان، بحيث تحل مشكلات العائلات الفقيرة الناشئة من اللجوء الى السكن العشوائى كما حدث في الماضي. ومن أهم البرامج في هذا المجال (برنامج بيتى حياتى) «Minha Casa Minha Vida»، والذى يهدف إلى التوسع في انشاء الوحدات السكنية للوقاية من اتجاه المواطنين لبناء مزيد من العشوائيات. ورسميا يهدف البرنامج إلى تقديم 3.4 مليون وحدة سكنية. وقد تم انفاق 26.6 مليار دولار على المرحلة الأولى (2009-2010) و62.85 في المرحلة الثانية (2011-2014) وبالطبع، تسعى الحكومة البرازيلية لتوفير هذه الوحدات بأسعار متدنية لتمكين محدودى الدخل من الحصول عليها ومن ثم قامت بتقديم حوافز للشركات الخاصة التي تقوم بالبناء عن طريق تخفيض ضرائبها بالإضافة الى تخفيض الضرائب أيضا على مواد البناء ومن جانب آخر تقديم دعم مادى للعائلات لتمكينها من سداد قيمة الوحدات السكنية. وقد تم التعاقد على نحو 2.3 مليون وحدة تم تسليم ما يزيد على مليون وحدة حتى الان، وما زال المشروع مستمرا حتى تنفيذه بالكامل. من المؤكد أن وجود العشوائيات فى البرازيل أو مصر أو أى دولة يعنى فشلا ذريعا فى التخطيط العمرانى للحكومات السابقة. بينما استمرارها دون معالجة او الحد من نموها والعمل على تقليصها يعنى فشل للحكومة الحالية. لا يمكن القول أن حكومات البرازيل اليسارية المتعاقبة منذ العام 2003 قد نجحت فى الانتهاء من تطوير كافة العشوائيات، ولكن مما لا شك فيه أنها حققت نجاحات كبيرة وغير مسبوقة ليس فقط على مستوى الدولة ولكن على المستوى الإقليمى والدولى. والمتوقع والمطلوب من الحكومة المصرية الحالية هو امتلاك الإرادة السياسية لتخطيط برامج عمل ذكية وطموحة ومتكاملة، وتحقيق انجاز عملى على الواقع يشير إلى تطوير مواجهة للعشوائيات فى المستقبل، مع ضمان اغلاق الباب أمام تشكل عشوائيات جديدة تكون عبئا على حكومات الأجيال القادمة.