ربما لا يعرف القارئ العادى مصطلح التاريخ من أسفل الذى تحدث عنه جيم شارب فى بحث له بدأه بالإشارة إلى خطابات لجندى موجهة لزوجته بعد مشاركته فى معركة «واترلو» الشهيرة وقد نبه فى البحث إلى أهمية استقاء التاريخ من الجنود بدلا من القادة. فالمصطلح يقصد به جمع التاريخ من خلال حياة المهمشين الذين يظهر دورهم فى حركة التاريخ من خلال الأعمال الأدبية والكتب الفقهية والقانونية والسير الذاتية وربما الكتب العلمية أيضا التى تنبهنا لانتشار مرض ما فى عصر ما وكيفية مواجهته وغيره من النتاج الثقافى الذى لم يكتب فى الأساس من أجل التاريخ، ثم عمل تاريخ مواز للتاريخ الرسمى الذى يكتب بأقلام المؤرخين المنتمين للسلطة. ومن المؤرخين الرواد الذين تبنوا هذا الاتجاه فى مصر الدكتور محمود إسماعيل فى كتابه المهم »المهمشون فى التاريخ«. والمؤرخ الواعى هو الذى يوازن بين هذا وذاك ويستخلص الحقيقة بحياد تام. ولا يستطيع المؤرخ مهما بلغ من معرفة فك شفرة الماضى بمجرد تناوله مجموعة من النصوص منعزلة عن السياق الاجتماعى الذى أنتجها. فالتاريخ سلاح ذو حدين. فمن يود أن يؤسس لأسطورة فعليه بالتاريخ ومن يود أن يبنى مستقبلا فعليه بالتاريخ ومن يود أن يهزم أمة أو يشوهها فعليه بالتاريخ. فالتاريخ ترياق لمستقبل الشعوب، ولكنه قد يصبح سما قاتلا إذا استخدم بطريقة خاطئة. من هنا فإن كتاب نبوية موسى «تاريخى بقلمى» والذى أشرت له فى مقالى السابق كتاب مهم لتأريخ حقبة زمنية مهمة فى تاريخ مصر ودور المرأة وجهادها من أجل تأكيد مكانتها فى المجتمع، وتأتى أهمية اسم الكتاب لتأكيد نقطتين: الأولى وعيها بأهمية التاريخ، الثانية وجهة النظر الشخصية فى النظر لذلك التاريخ الذى ربما يتعرض للتزييف مع بُعْدِ الفترة الزمنية. وهكذا يعكس عنوان السيرة الذاتية شكلا من أشكال المقاومة، مقاومة تجاهل التاريخ الرسمى لما تراه نبوية موسى مهما لرحلة حياتها المليئة بالمعاناة والكفاح، ومقاومة محاولات تزييف وقائع حياتها. وعندما ندخل لعمق الكتاب تتكشف لنا حقائق أخرى فى غاية الأهمية. منها أن صورة رفض الرجل لتعليم المرأة ليست بهذه القتامة التى تُصدِّر لها كتب التاريخ مع إقرارنا بوجود بعض التشدد من قبل المنغلقين فكريا. ونستخلص هذا من عدة نقاط أفصح عنها الكتاب نفسه منها: أن المدرسة السنية كانت تعلم الفتيات بالمجان تشجيعا لهن على الالتحاق بالتعليم. وتشجيع المدرسين لها بامتداح لغتها وأسلوبها الأدبى والمقارنة بينها وبين ملك حفنى ناصف. ومداعبة أستاذها الشيخ حمزة عبدالفتاح بوضع صفر لها على قصيدة هجت بها إصراره أن تحفظ الطالبات حروف المعانى المكتوبة فى كتاب النحو، فأعطاها صفرا قائلا لقد سئمت أن أكتب لك عشرة فى كل شئ وهذه فرصة أغير فيها العشرة إلى صفر تشجيعا لك على قول الشعر. وهكذا كانت لا تأخذ فى اللغة العربية درجة إلا الدرجة النهائية أو صفرًا. الموقف الثالث الذى يؤكد إعجاب الرجل بالمرأة واحترامه لها وصفها لأهل قريتها من الرجال عندما حصلت على الشهادة الابتدائية فى عام 1903. فقد وصفت بنفسها ابتهاج شباب قريتها بهذا الخبر ومدح عبقريتها، مما دفع أحد مشايخ قريتها حثِّ كريمته على مخالطتها لتتعلم منها وتحذو حذوها. إنه التاريخ ينصف الرجل عندما نقرأه فى مظان أخرى غير التاريخ الرسمي. لمزيد من مقالات شيرين العدوى