قبل صدور الطبعة الأولى من كتابه الشهير «البحث عن الذات» فى عام 1978، كان الزعيم الراحل أنور السادات يمارس الكتابة فى الصحف والمجلات وإصدار الكتب ككاتب يجيد التعبير عن أفكاره، قبل أن يقدم نفسه كسياسى يسجل مذكرات عن أحداث على درجة عالية من الأهمية عاصرها أو شارك هو بنفسه فى صنعها فى مرحلة ما من مراحل حياته. فالسادات لم يكن مجرد سياسى يعمل على تحقيق أهداف سياسية عقب تخرجه فى المدرسة الحربية وتعيينه ضابطا فى الجيش المصرى، بل جمع ما بين الثقافة والسياسة كما ذكر فى كتابه البحث عن الذات، فقد كان من بين أبناء ذلك الجيل الذى عاصر الحركة الثقافية الكبرى التى استغرقت ثلاثة عقود ذهبية فى تاريخ الفكر العربى «العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين» والتى تفتحت فيها عقول معاصريها من المثقفين على الفنون والآداب الأجنبية بجانب روافد الثقافة العربية التقليدية. ................................. نلاحظ منذ البداية أن السادات كان شغوفا بالقراءة ويقضى ساعات طويلة يخصصها للقراءة والاطلاع باللغتين العربية والإنجليزية، وكان من مرتادى سور الأزبكية للبحث عن الكتب بأسعار زهيدة، ولكن تجربته مع القراءة تعمقت فى السجن الذى دخله السادات على فترتين منفصلتين فيما بين سنتى 1942 و1948. كانت فترة السجن الأولى على أثر اتصاله بضابطين ألمانيين إبان الحرب العالمية الثانية، بينما كانت فترة السجن الثانية عقب اتهامه فى قضية اغتيال الوزير الوفدى أمين عثمان. كانت القراءة ركنا مهما فى حياته، ونجده يكتب عن منع سلطات السجن الصحف والمجلات والكتب أو السماح بها، كمقياس رئيسى للتعبير عن الضيق أو الانفراج فى حياته فى السجن. والسنوات التى قضاها السادات فى سجونه كان يسجل ذكرياته وأفكاره وما تأثر به من قراءات فى كراسة ظل يحتفظ بها ويعتز بما دونه فيها، ولم تقتصر قراءاته على الكتب المؤلفة باللغة العربية، بل يذكر لنا أنه قرأ رواية للكاتب الإنجليزى «إدجار ولاس» كانت مترجمة للألمانية، واستغل السادات أوقات الفراغ فى سجن معتقل ماقوسة بالمنيا والذى انتقل إليه فى رحلات سجونه العديدة، وهناك تعلم من زميل له فى السجن يدعى حسن جعفر كان يجيد اللغة الألمانية بسبب أن والدته كانت ألمانية، فبمساعدته استطاع السادات أن يتعلم اللغة الألمانية كتابة وقراءة عن طريق تلك الرواية وكان السادات قد اهتدى لفكرة تعليم اللغات من الروايات عندما قرأ أن الإمام محمد عبده، قد تعلم اللغة الفرنسية من خلال تعلمه لقراءة رواية مكتوبة بالفرنسية بمساعدة صديق له يجيد اللغتين العربية والفرنسية إذ يقول السادات عن تلك التجربة: «فالرواية هى شريحة من الحياة بكل ما فيها من أوصاف وحوار ونقاش.. إلخ»!. كما وقع هناك تحول خطير فى حياة السجين أنور السادات الذى عانى من الزنزانة 54 فى سجن «قره ميدان» وهى التى يعطى لها السادات أهمية كبرى فى قصة حياته من معاناته فيها كان سر سعادته عبر إيمانه بالله وهى عبارة عن غرفة ضيقة خانقة تنشع جدرانها بالماء والرطوبة وتسيطر عليها أسراب حشرات البق الكريهة ولكن هذه الزنزانة على كل ما فيها من سوء كانت سبيله إلى تحقيق ذاته بالكشف عن حقيقتها من خلال تجربة روحية أطلق فيها السادات قدراته الذهنية ليتجاوز الواقع المرير وهو فى حديثه عن هذه التجربة واعتزازه بها، لا يدعى أنها تجربة صوفية وإن كانت النزعة الدينية واضحة فيها ولكنه اكتفى من التجربة بمباشرتها دون تجريدية النظريات الفلسفية أو الإيغال وراء جذب الحياة الصوفية. فتح هذا الطريق أمامه مقال فى مجلة «ريدرز دايجست» كتبه عالم نفس أمريكى عن تجربة 24 عاما وهى «أن الإنسان فى أى مرحلة من مراحل حياته معرض لأن يصاب بصدمة تكون نتيجتها أنه يحس أن كل شيء حوله مغلق وكأنه فى سجن لا باب له، وأول باب لهذا السجن أن يعرف الإنسان ماذا يضايقه، وثانى باب الإيمان.. ما معنى الإيمان...» فتأثر السادات به للغاية، فمنذ قراءة هذا المقال استجمع كل قواه المعرفية والروحية لتحقيق ذاته، لا بالإغراق فى التمركز حولها، بل فى إنكارها لتحقيق التصالح والصدق مع نفسه كتمهيد للتصالح مع الوجود، فبإنكار الذات تتولد طاقة الحب والطمأنينة ومن ثم تشعر الذات بقيمتها الروحية، وهو ما سماه السادات بالنجاح الداخلى دون اهتمام بالنجاح الخارجى الذى يمكن أن يضل الذات ويضللها، ومن هذه الفكرة العميقة فى بساطتها أو البسيطة فى عمقها، تغير شكل ومعنى الزنزانة 54 فصارت هى الكون الذى انفتح أمامه، فبدت الزنزانة فسيحة وتبدلت معانى المكان والزمان وأعاد السادات مع تداعيات هذه الأفكار صياغة إيمانه بالله الذى قام فيما سبق على الخوف فقط كما كان يصوره شيخ الكتاب فى طفولته، فإذا بإيمانه الجديد يقوم على الحب والثقة فى القدر والرضا به وهو ما جعله يصرح بتعبير خطير لعل السادات كان جريئا فى استخدامه بتحقيق الصداقة مع الله العظيم». وهذه التجربة دونها السادات فى البحث عن الذات وعبر عنها بمنتهى البساطة ليؤكد قدرته على ترجمة قراءاته إلى كتابات، فليس شرطا أن يكون القارئ الجيد كاتبا جيدا، غير أن السادات دون قصة حياته بأسلوب سلس بسيط نَّم عن قدرة على «الحكائية» دون تكلف أو ادعاء وأنت عندما تقرأه تشعر كأنك تسمعه فتحدث الألفة بينك كقارئ وبينه ككاتب. ولعل ما يميز كتاب «البحث عن الذات» الذى أصدره السادات وهو رئيس للجمهورية، أنه لأول مرة فى التاريخ المصرى قديما وحديثا، يقوم حاكم بإصدار كتاب عن حياته بقلمه ويعرضه للجمهور كمؤلف وككاتب يخاطب الجمهور مباشرة عبر الكتاب. فقد تفرد السادات بهذه الميزة فى قائمة حكام مصر قاطبة، فحتى كتاب جمال عبد الناصر «فلسفة الثورة» صدر قبل أن يتم انتخابه رسميا رئيسا لمصر، فضلا عن أنه لا يسجل قصة حياة جمال عبد الناصر، والتى وإن صدرت عنها كتب، إلا أنها لم تكن بقلم عبد الناصر الذى مارس الكتابة أيضا وكانت له تجربة لكتابة قصة لم تكتمل تحت عنوان «فى سبيل الحرية» لم يكملها ربما بسبب أنه كتبها فى فترة مبكرة من حياته ثم انقطع عن الكتابة بعدما ناء به من مسئوليات كبرى فى حكم البلاد». والسادات كمثقف يجيد عدة لغات ويقرأ نصف كتبه التى يختارها باللغة الإنجليزية وهو كصاحب تجربة خاصة بناها على ثقافته، لم يتعامل مع القراءة والكتابة بمعاناة، بل تجده مستمتعا بكلا الأمرين دافعا تجربته الثقافية نحو متعة عقلية روحية وتجد أثر ذلك جليا فى كتاباته، فعبارته قصيرة مباشرة يقدمها فى سلاسة دون افتعال أو تفلسف كاذب. تجده فى كتاب «أسرار الثورة المصرية.. بواعثها الخفية وأسبابها السيكولوجية» الصادر عن دار الهلال فى عام 1957 يكتبه بأسلوب صحفى يقدم المعلومات فى حكايات مباشرة وكثيرا ما كان يميل إلى السخرية فى بعض المواضع رغم مسئولية الكتاب الذى صدر كوثيقة لأن مؤلف الكتاب نفسه واحد من صناع هذا الحدث الجلل فى تاريخ مصر، لكن العنوان الفرعى للكتاب يبدو ضخما بالنسبة لما خرج به الكتاب نفسه والذى كان متوسط الحجم رغم ما حواه من مشاهدات وقصص وأسرار، ولكن لا ننسى أن السادات عمل بالصحافة كعمل مباشر، فبعد خروجه من السجن وقبل عودته للجيش حيث كان مفصولا منه بسبب نشاطه السياسى، عمل السادات عن طريق صديقه الكاتب والروائى إحسان عبد القدوس فى دار الهلال - والتى كانت دار النشر المختارة التى تولت طبع بعض كتبه آنذاك- ورغم أن الكتاب لم يكتب بأسلوب التحقيقات أو التقارير الصحفية إلا أن أثر الصحافة واضح فى تقسيم الفصول والفقرات والعناوين المثيرة والمشوقة. وهذا الكتاب هو نفسه الذى كان قد طبع تحت عنوان «صفحات مجهولة» إلا أنه تم تغيير العنوان فى الطبعات التالية ولابد من أن نشير إلى أن جمال عبد الناصر والذى كان رئيسا للجمهورية فى ذلك الوقت، كتب مقدمة الكتاب وأثنى على المؤلف وأسلوب «الأستاذ القائمقام أنور السادات» ووصف المعلومات التى حواها بأنها «جمعتها ريشة رسام ماهر». وكتب السادات كذلك «قصة الثورة كاملة» وأصدر كتابا تحت عنوان «قصة الوحدة العربية» فى فترة الإعداد للمشروع الوحدوى الذى حمل عبد الناصر نفسه وثورته مسئولية تحقيقه. وهناك كتب أخرى كانت تجميعا لمقالات كتبها السادات فى عدة صحف كان على رأسها جريدة الجمهورية التى صدرت تحت رئاسة تحريره لتكون ناطقة بلسان الثورة التى ألغت الملكية وأعلنت النظام الجمهورى، وظل السادات فيها من عام 1953 إلى عام 1956 ليتركها ليتولى مسئوليات أخرى ولكنه لم يتوقف عن الكتابة، ولا ننسى كتابا له بعنوان عاطفى جذاب «يا ولدى هذا عمك جمال» يحكى فيه لولده - كما كان تحكى له جدته- عن قصص كفاح الشعب ويزيد عنها أنه فى القلب منها يحكى لولده «جمال» قصة عمه «جمال». ولسنا هنا فى معرض تقييم ونقد كتب أنور السادات وكتاباته الصحفية فهو لم يقصد احتراف الكتابة ككاتب يعتمد على الكتابة كمهنة وحيدة أو رئيسية فى حياته وهو عمل عظيم يقدره الجميع، ولكن السياسة قد استغرقت السادات ولنتذكر أنه فى قراءاته وكتاباته كان يبغى المتعة العقلية والروحية دون أن يتحمل مسئولية معاناة الكاتب أو المفكر ولكنه مع ذلك قد بدا عليه أنه كاتب متمكن من أسلوبه لا يكف عن الكتابة فى الصحف والمجلات. وكما كان السادات هو الحاكم الوحيد فى التاريخ المصرى الذى قدم قصة حياته فى كتاب فى أثناء توليه المسئولية، كان السادات أيضا متفردا بأنه يكتب إلى القارئ مباشرة عبر الصحف والمجلات متجاوزا طرق المخاطبة التقليدية عبر الخطب والبيانات الرسمية والمحافل العامة. فالسادات بدا فى أثناء الإعداد لإصدار مجلة أكتوبر «صدر عددها الأول فى 31 أكتوبر 1976» وكأنه يشارك الكاتب الكبير أنيس منصور فى تحرير تجارب الإعداد والإصدار وشكل الغلاف والعنوان الذى استقرت عليه المجلة بعد اقتراح عدة عناوين، وتصدرت صورته العدد الأول، ليس هذا فقط، فلم يقتصر السادات على وجوده كرئيس جمهورية فى الأحاديث التى يجريها رئيس التحرير أو يكتبها فى مقاله الافتتاحى أو فى أخبارها وتقاريرها، بل كان محررا من بين كتابها، له باب أسبوعى تحت عنوان «من أوراق الرئيس السادات» وهو الذى جمعه انيس منصور فى كتاب صدر بالعنوان نفسه. ليس هذا فقط، بل كان السادات قارئا ومتابعا للصحف والمجلات العالمية والعربية ويقرأ مقالات الكتاب والصحفيين ويناقشهم فيها وكانت خصوماته وصداقاته فى الوسط الثقافى أو الصحفى تنم عن اهتمامه الكبير بما يكتب. وذكر أنيس منصور أنه أشاد بحلقات سلسلة «فى صالون العقاد.. كانت لنا أيام» التى نشرها أنيس منصور عن ذكرياته مع العقاد ولاقت السلسلة إقبالا مذهلا ومازال الكتاب الذى جمعها كلها من أكثر الكتب انتشارا ومبيعا حتى الآن وللسادات كلمة شهيرة انتشرت بعد الحلقة الأخيرة والتى كتبها أنيس منصور عن ظروف وفاة عملاق الأدب العربى، إذ قال متأثرا بما قرأه ومشيدا بأسلوب الكاتب: «موت الراجل وموتنا معاه يا أنيس». والعقاد نفسه يشغل مكانة كبرى لدى السادات إذ كتب مقدمة لكتاب العقاد الشهير «حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» الذى صدرت طبعته الأولى عن منظمة المؤتمر الإسلامى، وهو أيضا من أكثر الكتب توزيعا وانتشارا حتى الآن وكتب السادات تقديما قصيرا للكتاب بصفته أمين عام المؤتمر الإسلامى الذى اتفق مع المؤلف على نشر هذا الكتاب. كان السادات لا يكف عن الكتابة حتى اغتياله فى أكتوبر 1981، فبعد تأسيس جريدة مايو كجريدة ناطقة باسم الحزب الوطنى الديمقراطى الذى أسسه، كان السادات يكتب على صفحتها الأخيرة حلقات تحت عنوان «عرفت هؤلاء» وكان يحكى فيها ذكرياته مع وعن الشخصيات التى التقى بها فى حياته وأثرت فيه سلبا وإيجابا بنفس براعته الحكائية فتجده يحدثك عن عزيز المصرى وخروشوف وسائق بسيط فى قرية مصرية استضافه فى أثناء رحلة هروبه من السجن وكذلك ذكرياته عن زملائه فى المعتقلات التى تنقل فيها فى فترات سجنه، فكانت هذه المقالات تسهم فى زيادة توزيع الجريدة ليقرأ الناس ما كتبه رئيس الجمهورية بقلمه فى مقاله الأسبوعى. وعقب اغتياله فوجئ الناس بكتاب «وصيتى» وهو الكتاب الذى أوصى بنشره بعد موته، وكأنه يصر على مواصلة حواره مع القراء فى كتاب على يقين أنهم سيقرأونه بعد موته.