لا تمل ذاكرتى من تكرار صور الكبار الذين قاموا بالتأثير فى مسيرة العمر الممتدة عبر أكثر من ثلاثة أرباع قرن؛ أضحك لبعض صورهم التى تذكرنى بمواقفهم المختلفة وأرجو للذاكرة ان تضعهم فى صفوف ما اضافوا لنا. وكانت المعلمة نبوية موسى هى اول امراة علمتنى منذ السادسة من العمر بان الفتاة تساوى الفتى دون تفرقة حين التحقت بروضة الاطفال بمدرستها المتكاملة من روضة اطفال إلى الدراسة الابتدائية إلى الثانوية. وكانت تصر على ان ندرس عن صحابة الرسول الكريم سيرة العديد من الرجال المؤثرين فى مسيرة الدين الحنيف ومعها سيرة العديد من النساء المؤثرات فى مسيرة الدين . وكان من الطبيعى ان تدرس لنا سيرة النساء المؤثرات فى الدين المسيحى بداية من مريم العذراء إلى مريم المجدلية، فضلا عن سير الرجال بداية من نبى الله زكريا ثم المسيح عيسى بن مريم ؛ فضلا عن كيفية مجيء العائلة المقدسة إلى مصر. وطبعا كان وجود مدرسة نبوية موسى بالإسكندرية المسماة كلية بنات الاشراف؛ كان هذا الوجود فرصة لتعليمنا ما تغنى به صلاح جاهين فيما بعد البنت زى الولد.. ماهياش كمالة عدد. ولم تكن حرب فلسطين عام 1948 سوى رحلة مواجهة للنفس العربية؛ فقد خرجنا منها ونحن نعرف الحقائق الواضحة، وهى أن البطولة ليست هى الشجاعة الفردية فقط ولكنها بالعمل المتكامل؛ فمعركة الفالوجا كشفت لنا عن كيفية التآزر بين الرجال لمعرفة حقيقة الواقع من فساد الكثير من رجال الحكم وعدم سماح الاستعمار للدول العربية ان تسلح نفسها وتتعرف على إمكاناتها؛ ولم يكن تنظيم الضباط الأحرار الذى قام بثورة يوليو 1952 سوى ابن شرعى لمرارة الواقع العربى فى ذلك الوقت ، وهو التنظيم الذى تحرك ليرسم خريطة الاستقلال فى عالمنا العربي. وطبعا كانت مصر هى المقدمة التى تبعتها كثير من دول المشرق والمغرب العربي، يكفى أن نتذكر العدوان الثلاثى على مصر لنجد العقول العربية الكبيرة تنتفض بداية من العراق مرورا بسوريا؛ توقفا عند لبنان؛ وصولا إلى الجزائر؛ مع عدم إهمال ما جرى من مساندة لنا سواء من السودان الشقيق أو عدن فى جنوب الجزيرة العربية؛ وتطوعا من ابناء الملك عبد العزيز آل سعود فى صفوف الحرس الوطنى المدافع عن مصر. ولا يمكن نسيان ما فعله طه حسين من مناداة بحق التعليم المجانى بشرط أن يتحمل الأغنياء مسئولية تعليم من لا يستطيعون، وقد أقرت ثورة يوليو هذا الحق، ولكن عندما شاخ الواقع القيادى بمصر وحدث انفصال بين الواقع والمأمول، نشأ عندنا تعليم خاص وتعليم متميز وتعليم مجاني، والمسافة بين كل نوع من التعليم يصعب ردمها بالكلمات، وكان الله فى عون د. طارق شوقى الذى اختاره الرئيس عبد الفتاح السيسى ليكمل مسيرة الصدق مع النفس التى بدأها طه حسين، ولكن مساحة كبيرة من المجتمع تعودت على خداع النفس بتصديق أن الشهادة هى مفتاح المستقبل بينما يرنو طارق شوقى إلى حقيقة التعلم مسيرة لا تتوقف عند مجرد حفظ كتب من الغلاف إلى الغلاف؛ بل هى كيفية التفكير فى الواقع والوقائع بمنهج علمى لا يكف عن البحث والإضافة والسير إلى الأمام، ولن يتحقق ذلك بانكفاء الأسر لصرف المليارات على الدروس الخصوصية دون إيمان بأن التعليم الذى يقدمه اسلوب طارق شوقى يضيف للعقول الشابة كيفية التقدم إلى الأمام، وأن بعض ما نصرفه على الدروس الخصوصية قادر على ان يطور التعليم بكامله من الحضانة إلى الكليات التكنولوجية، ولكن كيف نخرج من سجن الفردية إلى الإيمان بقيمة العقل العام، أى العقل الذى يتعلم الدراسة والبحث والقدرة على الإضافة. ولن أتوقف عند الثقافة التى تقودها حاليا عازفة من صفوف العازفات الكبار لآلة الفلوت وهى إيناس عبد الدايم؛ وهى العارفة بأن الفلوت لا تبدع دون مصاحبة بقية آلات الأوركسترا، ومنذ أن ترك فاروق حسنى موقع قيادة العمل الثقافى ونحن نعانى تفكك التواصل بين أجهزة الوزارة المختلفة، فمن يصدق على سبيل المثال لا الحصر غياب عقل مبدع فى دنيا اختيار الكتب المطبوعة مثل عقل د. أحمد مجاهد لمجرد أن أحد الوزراء عانى الارتجاف وهو على كرسى الوزارة من تقدم احمد مجاهد فى مجال إدارته المواقع الثقافية المختلفة مثل هيئة قصور الثقافة ثم هيئة الكتاب؛ بعد ان تشرب فى أثناء دراسته للدكتوراه بما أسسه الشاعر صلاح عبد الصبور سواء فى الشعر او إدارة النشر الثقافى إبان تعلمه من د. سهير القلماوي، وتواصلا مع ما درسه من تواصل ثقافى عربى وعالمى تحت قيادة د. جابر عصفور بالمجلس الاعلى للثقافة؛ فوجدنا ذلك المرتجف على مقعد الوزارة وهو ينهى انتداب أحمد مجاهد من إدارة العمل الثقافى نظرا للشائعات التى رشحت أحمد مجاهد كمنافس على المقعد الوزاري. والأمر نفسه حدث عندما استغنينا فى الرؤية الثقافية عن خبرة الراقى المتعفف عن اى مغنم يبدو كبيرا فى عيون صغار الروح وهو من حلم وعمل على إيجاد مسرح واوبرا فى عاصمة كل محافظة وأعنى به د. صابر عرب؛ ولعله من القلة التى أعادت للدولة أى هدية ذات قيمة، وتكون الهدية قد جاءته من أى زيارة رسمية لدولة شقيقة، وأسألوا مجلس الوزراء عن الساعات الفاخرة التى أرسلها صابر عرب إلى خزانة الدولة. ولن أتوقف عن فساد فصل الثقافة عن الآثار؛ وهو فساد حقيقى حدث لمجرد أن أحمد شفيق عندما رأس مجلس وزراء مصر فى نهاية عصر مبارك أراد أن يكافئ العالم الأثرى الكبير زاهى حواس بمنصب وزارى رغم أن إضافات زاهى فى مجال الآثار والثقافة يمكن رؤيتها مجسدة فى ذلك التعاون الخلاب الذى كان بينه وبين الفنان فاروق حسني. وعندما ننظر إلى الإعلام سنجد المأساة كامنة فى عجز اتساع الرؤية وقوة الضبط فى العمل اليومى عند من جاءوا بعد صفوت الشريف . ولم تقم لماسبيرو قائمة من بعد ذلك وغرقنا فى إدمان تكرار خطايا صفوت الشريف عندما وقع منه فى أثناء عمله السابق من خطايا، ونتجاهل ما أضافه بعدما أتاح له حسنى مبارك من فرصا للإضافة، ويكفى أن نذكر مدينة الإنتاج الإعلامى وإنتاج العديد من المسلسلات التى نعجز حاليا عن إنتاج مثيل لها، بداية من رأفت الهجان وليالى الحلمية وبوابة الحلواني، وأحاديث الصباح والمساء عن رواية لنجيب محفوظ. ولم نستفد من خبرة الإعلامى المتميز النادر تواضعا ورفيع الاداء الراقى حسن حامد صاحب المدرسة التى تخرج فيها نجوم المذيعين منذ تأسيسه قناة النيل الدولية ثم قطاع النيل للقنوات المخصصة، وليس حماسى لحسن حامد ابنا لصداقتنا الممتدة فقط ولكن هى رصيد امين لما اضافه هذا العقل الكبير شديد التواضع والرفعة والذى اسمه حسن حامد. ويا سادتى علينا جرد خريطة العقول الكبيرة المركونة على رفوف الذاكرة لنستفيد من قدراتها على الإضافة . فليس منهم من يرغب فى مغنم ؛ وانا اعلم ما اقول ، ولكن اغلبهم يعانى من ألم تدهور ما تركوه من إنجاز على أرض الواقع . لمزيد من مقالات ◀ منير عامر